ارشيف من :آراء وتحليلات
المجاعة : قلة محاصيل أم إبادة منظمة ؟
بعيداً عن أن تكون نتاجاً للتغيرات المناخية، لم تعد المجاعات نتاجاً حصرياً للنهب الاستعماري ولعمليات إعادة الهيكلة. لقد أصبحت اليوم شكلاً ناجعاً من أشكال الإبادة الهادفة إلى تقليص سكان الكوكب إلى عدة ملايين بدلاً من عدة مليارات.
في 22 أيار / مايو الحالي، نشرت صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية تقريرا عن المجاعة، وأكدت أن عشرات الملايين من الأفارقة باتوا مهددين بالمجاعة بسبب قلة المحاصيل الزراعية والتقلبات المناخية.
انتقادات واقتراحات لأهداف تضليلية
وقد سارع عدد كبير من وسائل الإعلام إلى إعادة نشر هذا الخبر وإلى تدعيمه بالمزيد والمزيد من الأرقام حول الأعداد المتزايدة لضحايا المجاعة، ومن صور الجياع المتحولين إلى هياكل عظمية، أو صور الحشود المتزاحمة حتى الاقتتال أمام شاحنة توزع الخبز الجاف...
وبهدف الترويج لوعي زائف للمشكلة، وبالتالي للابتعاد بالمشكلة عن سكة الحل، نشرت مقالات "نارية" انتقدت، من موقع النفاق، تلكؤ الدول المانحة عن تقديم ما يكفي من المساعدات للجياع، وأشادت بالمبادرات الخيرية لجمع التبرعات المالية والعينية. لكن أحداً لم يتطرق إلى الحديث عن أسباب للمجاعة غير قلة المحاصيل الزراعية والتقلبات المناخية.
وإذا كان البعض قد وجد أسباباً سياسية للظاهرة، فقد وجدها عند المسؤولين الفاسدين في البلدان الجائعة، والذين تسمح دوائر الهيمنة بالتشهير بهم كتمهيد لاقتلاعهم لا لأنهم فاسدون بل لأن المصالح الجيوسياسية لتلك الدوائر تقتضي رميهم والتخلص منهم.
كما ظهرت، على سبيل المثال، آراء جريئة حول أسباب المجاعة في القمة العالمية للعمل الإنساني التي انعقدت مطلع الأسبوع الحالي خلال يومين في اسطنبول. ومنها رأي مستوحى من قصة "السمكة والصنارة". هذا الرأي يهاجم تقديم المساعدات المالية ويعتبرها مسؤولة عن استمرار المجاعة بقدر ما تحول الجياع إلى مجرد منتظرين للمساعدات، ويطالب بمقاربة المشكلة ضمن إطار البحث عن حلول تنموية. وبالطبع، لا يمكن تبرئة أصحاب هذا الرأي من النفاق لأن التنمية التي تحظى بالكثير من الاهتمام الظاهري وتعقد من أجلها المؤتمرات الدولية الحاشدة لم تتمكن من حل مشكلة الجوع، لأنها هي نفسها ليست الا وسيلة لإثراء الشركات الغربية وعملائها في المجتمعات المحلية.
قلة محاصيل ام ابادة منظمة؟
لكن أحداً لم يتطرق إلى الأسباب الحقيقية للمجاعة، أي إلى النهب الاستعماري الذي مورس طيلة قرون في بلدان العالم الثالث. وإلى عمليات إعادة الهيكلة التي تم إملاؤها من قبل دوائر الهيمنة على بلدان العالم الثالث وأدت إلى إفقار هذه البلدان عبر ضرب القطاعات الزراعية والمنتجة فيها.
وجبات ساخنة
كما لم يتطرق أحد إلى المجاعة بصفتها مجالاً مربحاً للاستثمار الرأسمالي. فعلى سبييل المثال، قامت جهات نافذة بتمكين بعض الشركات الأوروبية من تحقيق أرباح خيالية عبر ابتكار حل للمجاعة في بلد فقير من خلال توزيع وجبات ساخنة على الفقراء خلال يوم أو يومين.
وفي الاطار نفسه، نشبت في القمة العالمية للعمل الإنساني التي ورد ذكرها آنفاً خلافات بين المنظمات غير الحكومية، من جهة، والدول من جهة أخرى، حول تقاسم الأموال المخصصة لمساعدة الجياع والمنكوبين في العالم.
وحتى الحديث عن المجاعة بوصفها نتاجاً للنهب الاستعماري وإجراءات إعادة الهيكلة لم يعد، رغم صحته، مفيداً عندما يكون المطلوب نشر حركة وعي حقيقي لطبيعة المشكلة ولأشكال النضال الواجب اعتمادها من أجل مواجهتها. فعندما يموت خمسون مليوناً من البشر سنوياً من الجوع، تصبح المجاعة شكلاً ناجعاً من أشكال الإبادة الجماعية والمقصودة عن سابق تصور وتصميم.
فالمجاعة تسهم، إلى جانب الحروب وزراعة الأمراض والصناعات الغذائية والأدوية الزراعية والكوارث المناخية الناجمة عن وحشية الحضارة الصناعية الاستهلاكية، في الفتك بأعداد كبيرة من بني البشر. وهذه العملية تتم تنفيذا لمخططات جهنمية تهدف إلى تقليص عدد سكان الكوكب من ثمانية مليارات نسمة إلى عدة ملايين من الأثرياء الذين يرغبون في العيش دون أن ينافسهم أحد على مصادر الغذاء والماء والهواء التي بدأت بالنضوب بسرعات قياسية.
الوعي الجديد للمشكلة بات مطلوباً أكثر من أي وقت مضى لمواجهة الوعي المسموم الذي يجري نشره بالكثير من النجاح من قبل دوائر الهيمنة.
فأحد أولئك الذين يتم تقديمهم على أنهم خبراء أو مختصون يقدم تعريفاً للمجاعة على أنها عدم القدرة على شراء الغذاء. ومعنى هذا التعريف التضليلي هو أن الحل الوحيد لمشكلة المجاعة هو امتلاك المال الضروري لـ "شراء" الغذاء.
وبدلاً من هذا الوعي المسموم الذي يدفع الناس إلى القبول الجبري بوظيفة المستهلك المتسول المحكوم عليه بالموت جوعاً في نهاية المطاف، فإن المطلوب هو العمل على النهوض بوعي جديد يدفع الناس إلى البحث عن خلاصهم وحريتهم الحقيقية عبر عودتهم إلى وظيفتهم كمنتجين للثروة وللغذاء، وبالتالي إلى بناء أوطان مستقلة وحرة وكريمة.
دوائر الهيمنة تسمح باتهام بعض المسؤولين الفاسدين بالتسبب بالمجاعة تمهيداً لاقتلاعهم لا لأنهم يتسببون بالمجاعة بل لأن المصالح الجيوسياسية لتلك الدوائر تقتضي رميهم والتخلص منهم.
التنمية التي تحظى بالكثير من الاهتمام الظاهري وتعقد من أجلها المؤتمرات الدولية الحاشدة لم تتمكن من حل مشكلة الجوع، لأنها انكشفت هي نفسها عن وسيلة لإثراء الشركات الغربية وعملائها في المجتمعات المحلية.