ارشيف من :آراء وتحليلات

نزارباييف: ممنوع نقل ’السيناريو الاوكراني’ الى كازاخستان

نزارباييف: ممنوع نقل ’السيناريو الاوكراني’ الى كازاخستان

 خلافًا لأي مظهر مغاير فإن الدولة الروسية بقيادة فلاديمير بوتين تنطلق في سياستها العامة الداخلية والخارجية، وفي جميع الحقول: الثقافية والاجتماعية والدينية والتربوية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، من منطلقات أيديولوجية وفكرية ثابتة، حية ومتفاعلة، تشكل الأساس الفكري لوجود وحراك الدولة الروسية.

ثلاثية: الوطنية الروسية ـ الاورثوذوكسية ـ الاوراسية

وفي مقدمة الأيديولوجية المعتمدة هذه المنطلقات:

ـ1ـ الأيديولوجية الوطنية الروسية المعتدلة التي تؤمن ان روسيا وطن ذو أديان وقوميات واتنيات ولغات وثقافات متعددة، ومنها كلها يتشكل الشعب الروسي والوطنية الروسية.

ـ2ـ الاعتراف والممارسة الواقعيان بأن الانتماء التاريخي لغالبية الشعب الروسي الى الجنس القومي السلافياني والى الديانة المسيحية الشرقية الصحيحة (الارثوذوكسية) هو الأساس في تكوين روسيا، كثقافة وشعب ودولة.

ـ3ـ تبني "الاوراسية"، كمفهوم حضاري تاريخي يمد جذوره الى الفلسفة الارسطوية وبالأخص فكرة الدولة العالمية، التي تتآخى فيها وتتفاعل وتندمج جميع الشعوب والاتنيات والحضارات والثقافات والديانات، وهي الفكرة التي حارب لاجلها، وقـُـتل بسببها، الاسكندر الكبير (المقدوني ـ الاغريقي).

ومنظـّر الفكرة "الاوراسية" الحالي هو الفيلسوف والكاتب وعالم الاجتماع الروسي الكسندر دوغين، مؤسس "الحركة الاوراسية العالمية" في روسيا. ويعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من انصار الكسندر دوغين، على الرغم من اختلافهما في بعض المواقف السياسية، ومنها ان دوغين انتقد بشدة سياسة بوتين خلال الازمة الأوكرانية، واتهمه بالتساهل واللين في معالجة تلك الازمة، وانه كان ولا يزال ينبغي حسم المسألة عسكريا وإعادة ضم أوكرانيا بالقوة كجزء من اراضي الدولة الروسية كما كانت بالاصل قبل الحرب العالمية الأولى.

ان مركـّب الكيمياء السياسي لهذه المنطلقات هو الذي يكمن في صلب السياسة العامة، الداخلية والخارجية، للدولة الروسية، بما في ذلك الخطوط العريضة للميزانية وأفق التوجه الاقتصادي، وتحديد الأصدقاء والاعداء، وقرارات التسلح والحرب والسلم التي ـ تبعا لحجم روسيا ومكانتها الدولية ـ يتعلق بها المصير العالمي برمته.

الاوراسية الروسية بوجه العولمة الاميركية

ويمكن، في اختزال افتراضي وقسري جدا، ان نلخص الوجه الخارجي للمنطلقات الأيديولوجية للدولة الروسية بـ"الاوراسية" (الحضارية التعددية)، التي تتعارض على خط مستقيم  مع أيديولوجية "العولمة" التي تعتمدها الدولة الأميركية، التي لا تعني في نهاية المطاف سوى "الأمركة" او الاصح فرض "السيادة الأميركية" على جميع الشعوب والأمم والأديان والحضارات والثقافات ووضعها تحت جزمة الكاوبويات الاميركيين المعتوهين.

 درب الحرير الجديد

قلنا فيما سبق ان المفاهيم الاوراسية هي التي تحكم الخطوط العريضة والمشاريع الكبرى لروسيا. ومن ضمن ذلك كانت روسيا قد طرحت مشروع انشاء اتحاد جمركي اوراسي كبير تنضم اليه الدول الأوروبية والاسيوية، مما يزيل الكثير من العقبات امام الحركة التجارية والسكانية ويشجع الاقتصاد عامة والانتاج خاصة، لمختلف الدول الأعضاء. ولعدم وجود عراقيل فيما بينها ولعلاقاتها الإيجابية القديمة منذ العهد السوفياتي، تشكلت النواة الأولى لهذا الاتحاد العتيد من ثلاث دول هي: روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان.

أوكرانيا حكمت على نفسها بالزوال كدولة

وكانت روسيا تأمل في التوصل الى حلول مقبولة لمشاكلها مع أوكرانيا، خصوصا حول ترانزيت الغاز الى أوروبا، وان يتغلب المنطق المعتدل، العقلاني والبراغماتي في السلطة الأوكرانية، وان تكون أوكرانيا هي الدولة الرابعة التي تنضم الى الاتحاد الجمركي الاوراسي. ونظرا للعلاقات السكانية والاقتصادية المميزة بين روسيا واوكرانيا، ورغبة أوكرانيا في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، كانت روسيا تأمل ان تضطلع أوكرانيا بدور جسر تعاون ثلاثي بنـّاء بين الأطراف الثلاثة: روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وليس الى نفق تهريب وتخريب ضد روسيا.

ولكن الانقلاب الفاشستي ـ الأميركي في كييف في 19 شباط 2014 اسقط إمكانية قيام أوكرانيا بهذا الدور التاريخي، وفي الوقت ذاته اسقط وحدة الدولة الأوكرانية، حيث انتفض السكان الروس والناطقون باللغة الروسية في شبه جزيرة القرم واجروا استفتاء شعبيا طلبوا فيه العودة للانتماء الى روسيا كما كانت القرم حتى 1954، ووافقت روسيا على انضمام القرم، وانفصلت مقاطعتا غدانسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا واعلنتا نفسيهما جمهوريتين مستقلتين. ومنذ اكثر من سنتين تحاول سلطات كييف والعصابات الفاشية في غرب أوكرانيا اخضاع و"استرجاع" هاتين الجمهوريتين، ولكنها عاجزة تماما عن ذلك، لان "الجمهوريتين" اعلنتا التعبئة العامة، وشكلتا "قوات الدفاع الشعبي الذات" التي يقاتل جنودها بشراسة دفاعا عن بيوتهم واهاليهم.

دور اوراسي خاص لكازاخستان

 في مقابل تلك الفرصة الأوكرانية الضائعة، فإن القيادة الروسية تخطط لاعطاء دور مماثل لجمهورية كازاخستان (السوفياتية السابقة). وقد ظهر ذلك بوضوح في الاحتفال والعرض العسكري الروسي في عيد النصر في 9 أيار الماضي، حيث جلس الرئيس الكازاكي نور سلطان نزارباييف على المنصة الرئيسية جنبا الى جنب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ثم رافقه وشاركه في وضع الزهور على قبر الجندي المجهول وقبور كبار القادة العسكريين الذين قادوا القوات السوفياتية الى النصر في "الحرب الوطنية الكبرى" (الحرب العالمية الثانية).

نزارباييف: ممنوع نقل ’السيناريو الاوكراني’ الى كازاخستان

كازخستان ترفض تكرار سيناريو اوكرانيا

ويبلغ تعداد سكان كازاخستان قرابة 17 مليون نسمة، 65% منهم تقريبا كازاخستانيون، ونحو 25% من الروس والباقون من قوميات واتنيات مختلفة من الجمهوريات السوفياتية السابقة و2% من الايغور المسلمين الصينيين. حوالى 70% من اهلي وسكان كازاخستان هم من المسلمين. والكازاخستانيون يعودون باصولهم القومية الى الاتراك الطورانيين القدماء والى المغول والتتار. ولغتهم الوطنية قريبة جدا من اللغة التركية القديمة ومشتقة منها.

وتقيم روسيا علاقات ممتازة مع الكازاخستانيين افضل مما كان في العهد السوفياتي ذاته، وهي تأمل ان تكون هذه العلاقات مثالا يحتذى للعبور الى تشجيع الجمهوريات الإسلامية السوفياتية، وكذلك الى تحسين العلاقات مع تركيا والبلدان الإسلامية السنية  بشكل عام، جنبا الى جنب التحسين والتطوير المتواصل للعلاقات الأخوية مع الجناح الإسلامي الشيعي وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية الإيرانية والشيعة العراقيين والطائفة العلوية الكريمة في سوريا وحزب الله في لبنان.

الا ان الولايات المتحدة الأميركية، ستكون الخاسر الأكبر فيما لو نجحت خطة إقامة الاتحاد الجمركي الاوراسي، وهي متضايقة جدا من إمكانية قيام كازاخستان بدور خاص على هذا الصعيد.

وللخروج من هذا الوضع تعمل الان الأجهزة الأميركية على عدة خطوط:

ـ1ـ من اجل كسر هيبة النظام وتشجيع "المعارضة" على التحرك، يجري إعداد  المجموعات الاجرامية من الدواعش الذين سبق وقدموا من الجمهوريات السوفياتية السابقة، والذين يفرون الان من سوريا والعراق، وتوجيه بعض تلك المجموعات الى كازاخستان للقيام بالعمليات الإرهابية ضد الأهداف المدنية بصورة خاصة.

ـ2ـ تستغل البروباغندا الغربية وابواقها كون الرئيس نور سلطان نزارباييف يتولى الرئاسة منذ سنة 1991 وقد تمت إعادة انتخابه عدة مرات، لتشن حملة حول "دكتاتوريته". وبدأت تلك الابواق تنادي بضرورة  انشاء "ميدان للديمقراطية" في استانا (العاصمة) على غرار "الميدان الأوروبي" الذي قاد الانقلاب في كييف (أي ساحة للمعارضة للتجمع واقامة المتاريس والعصيان المدني واشعال الحرائق وقنص رجال الامن والاعتداء على المواطنين الآمنين الذين يصدف مرورهم وقتل وسحل بعضهم، خصوصا من الروس).

ـ3ـ بدأت حملة تشويه للتاريخ الكازاخستاني وزعزعة الاخوة الروسية ـ الكازاكية والتشكيك بوطنية المواطنين الروس الكازاخستانيين، بالافتراءات القائلة ان الوجود الروسي العريق في كازاخستان هو وجود كولونيالي في العهدين القيصري والسوفياتي على السواء وحتى الان. واستنادا الى هذه الافتراءات بدأت بعض الأصوات الشوفينية تطالب بوقف اعتبار اللغة الروسية لغة رسمية للدولة الى جانب الكازاخية، وقصرها على المناطق ذات الأغلبية الروسية.

ـ4ـ لا تفوت المعارضة فرصة للتشكيك بسياسة الحكومة. وقد اثارت مؤخرا الضجة ضد الاقتراحات التي قدمها وزير الاقتصاد اربولات دوساييف في مجلس النواب لادخال تعديلات في قانون الأراضي تقضي بالسماح للأجانب باستئجار الأراضي في كازاخستان لمدة 25 سنة. وقال المعارضون ان تصديق هذه التعديلات هو في صالح المستثمرين الصينيين. وقد جمد الرئيس نزارباييف مناقشة التعديلات في البرلمان وقبل استقالة وزير الاقتصاد، وتم تشكيل لجنة برلمانية جديدة للبحث في اصلاح قانون الأراضي. وفي الوقت ذاته قال الرئيس نزارباييف: اننا نمر بأوقات صعبة. ولكننا لن نسمح بنقل "سيناريو أوكرانيا" الى بلادنا. واي محاولة من هذا النوع سنرد عليها بقسوة شديدة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب لبناني مستقل

2016-06-13