ارشيف من :آراء وتحليلات
كأس الأمم الأوروبية : كرة القدم أم كرة النار ؟
الحروب التي تجتاح الشرق الأوسط في الفترة الحالية قد تكون أشبه بالنزهات إذا ما قيست بالحروب التي توشك على الاندلاع في أوروبا والغرب على وجه العموم. هذا ما تمكن قراءته في المعاني الحقيقية لأعمال العنف المصاحبة لمباريات الدورة الخامسة عشرة لكأس أوروبا في كرة القدم.
أعمال العنف هذه لم تبلغ المستوى الذي بلغته عندما وصلت كرة القدم إلى حد التسبب بسقوط آلاف القتلى كما حدث في الحرب التي نشبت بين هندوراس وسلفادور عام 1970. ولا حتى إلى حد التسبب بسقوط عشرات أو مئات القتلى كما حدث بين مصر والجزائر، عام 2009. لكنها تفوح بروائح مفزعة سبق لأوروبا أن ألِفتها في حرب المئة عام وحروب نابليون والحربين العالميتين الأخيرتين.
توحيد الشعوب ؟
من المفترض بهذه الألعاب أن تلعب دوراً في إرساء علاقات الصداقة بين المناطق والأمم، حيث أن القيمين عليها يتفاءلون بواحد من شعاراتها هوعبارة عن طفل ينتعل الحذاء العجيب الذي يقطع الأميال والفراسخ بخطوة واحدة في مسعاه لـ "لقاء الآخرين وتوحيد الشعوب".
لكن ما حدث في مباريات كأس أوروبا التي تحمل الاسم الرسمي "يورو 2016" هو أشبه ما يكون ببداية حرب. إذ قبل ساعات من بداية المباريات في 10 حزيران / يونيو (تستمر الدورة حتى 10 تموز / يوليو)، وقع اشتباكان في مرسيليا. الأول عندما قام المئات من المشاغبين البريطانيين بقصف رجال الأمن الفرنسيين بالزجاجات الفارغة أوالمليئة بالمشروبات، قبل أن يتم حسم الموقف بالقنابل المسيلة للدموع. والثاني عندما اشتبك هؤلاء أنفسهم مع جماعات من الفتية الفرنسيين. وفي الحالتين، كما في حالة المباريات التي جرت حتى الآن، لم يكن هنالك ما يدعو إلى الانزلاق نحو العنف غير دوافع منها، على الأقل، شغف بالحرب الفعلية، الجدية، التي يتم فيها إنتاج لحم ودم حقيقيين، بدلاً من تلك التي يمارسها الجميع، شيباً وشباناً، في ألعاب العوالم الافتراضية على الشاشات.
كرة قدم برائحة الحروب
بالمناسبة، ظهر في إحدى الصحف الفرنسية، إلى جانب أخبار اليورو 2016، إعلان تجاري عن واحدة من ألعاب الفيديو يظهر فيها مقاتل مثير للإعجاب وهو يحصد صفوف الأعداء بالقوس والنشاب، مع عبارة "عشرة ملايين شخص مارسوا هذه اللعبة حتى الآن". وذلك بعد ساعات من نزول اللعبة إلى الأسواق.
مجرد إعلان بريء ؟ ربما. لكنه لا يخلو من إيحاءات دامغة. القوس والنشاب سلاح فعال جداً، وعن بعد. إضافة إلى سهولة صنعه ونقله و..."جدوائيته" حين ينطلق السهم باتجاه جمع غفير كجموع المشغوفين بكرة القدم. وقد لا نعدم إعلاناً آخر عن لعبة مضادة يرتدي فيها المشجعون دروعاً لمواجهة السهام التي قد تكون قد أصبحت على وشك الدخول في الاستخدام، بدلاً من الكراسي والزجاجات التي يتقاذفها محبو كرة القدم، والقضبان الحديدية التي تظل، رغم قدرتها على إلحاق الأذى، محدودة الفاعلية خارج إطار الالتحام بين المتقاتلين.
رغبة في التقاتل
ما بدأ، قبل بداية المباريات هو إذن الحرب لا الرياضة. ويوماً بعد يوم، تكشف المباريات المتنقلة بين المدن الفرنسية عن رغبة حقيقية عند الجماهير في التقاتل. والمخيف هو هذه الرغبة بالذات، وليس احتمال وقوع تفجيرات تستهدف الجماهير في مدرجات الملاعب.
وليس ما يجري من أحداث داخل المباريات هو ما يؤجج تلك الرغبة عند الجماهير، بل ما يجري خارجها. هنالك عدد من المراقبين الذين يعتقدون أن الاشتباكات التي وقعت حتى الآن بالتوازي مع تطور المباريات هي إرهاصات بحروب ترتدي طابعاً قومياً أو دينياً أو اجتماعياً، أو حتى بحروب لا تفسير لها غير الهوس بالحروب. وكل ذلك يعبر عن تناقضات لا حصر لها داخل أوروبا، وهذه التناقضات لا تجد حلولاً من النوع الذي يقطع الطريق على الحروب.
فالعديد من البلدان الأوربية تشهد حالياً حركة إضرابات واسعة ضد سياسات التقشف. وفي فرنسا التي تستقبل المباريات، تسببت تلك الإضرابات بأزمات كبرى على مستوى النقل، وخصوصاً نقل مئات الألوف من محبي كرة القدم باتجاه الملاعب التي تجري فيها المباريات. كما تسببت بتراكم النفايات في الشوارع الفرنسية.
وغير بعيد عن التقشف، تعيش أوروبا كلها حالة من الخوف على صلة باحتمالي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو بقائها فيه. وسواء خرجت أم لم تخرج فإن ذلك لا يخفض منسوب الخوف لأن الاتحاد الأوروبي بات يعاني من مشكلات كلها يدفع باتجاه تفككه، لا بل باتجاه تفكك الكيانات الوطنية الأوروبية بسبب تنامي المطالب والحركات الانفصالية في أكثر من بلد أوروبي.
والخوف نفسه قائم قاعد أيضاً بسبب أزمة اللجوء والعمليات الإرهابية التي شهدتها بلدان أوروبية. والظاهرتان تسببت بهما السياسات الغربية والأوروبية التي يمليها الحنين المرضي إلى زمن الاستعمار المباشر، لكنهما ترتدان على أوروبا بأشكال في منتهى السلبية والخطورة.
وهنالك أيضاً خوف حقيقي من احتمالات التصعيد العسكري بين الناتو وروسيا، وهو التصعيد الذي لا يتردد العديد من المراقبين في اعتباره مفتوحاً على احتمالات مشؤومة قد تصل إلى حد المواجهة النووية.
كل هذه المخاوف تجتمع اليوم لتتولد عنها مشاعر عدوانية ضد الآخرين تجد الآن متنفساً للتقاتل باسم كرة القدم كتعبير موارب عن رغبة الشعوب، قبل الحكومات، في التقاتل بكل الوسائل والسبل والأسلحة.
أعمال العنف المصاحبة لمباريات "يورو2016" تفوح بروائح مفزعة سبق لأوروبا أن ألِفتها في حرب المئة عام وحروب نابليون والحربين العالميتين الأخيرتين
الاشتباكات التي وقعت حتى الآن بالتوازي مع جميع المباريات التي أجريت حتى الآن هي إرهاصات بحروب ترتدي طابعاً قومياً أو دينياً أو اجتماعياً، أو حتى بحروب لا تفسير لها غير الهوس بالحروب .