ارشيف من :آراء وتحليلات
كارثة الكرادة... الحقائق المرة والمعالجات المطلوبة
بغداد - عادل الجبوري
بعد التفجير الإرهابي المروع في منطقة الكرادة الشرقية وسط العاصمة العراقية بغداد ليل السبت الماضي، اتخذ رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي جملة إجراءات، وأصدر حزمة قرارات لمعالجة مواضع الخلل والضعف في عمل المنظومة الأمنية العراقية بمختلف مفاصلها ومسمياتها ومهامها ووظائفها.
ما قام به العبادي، يعد في جانب منه أمر طبيعي، أي شخص في موقعه، وفي أي بلد يمكن أن يقوم بما قام به، حينما يواجه بلده وشعبه استهداف وتهديد ارهابي كبير كالذي حصل في الكرادة، حيث عشرات -أو مئات- الأرواح ازهقت، وعشرات المحال والسيارات احترقت، جراء ما لحق بها من اضرار.
بلجيكا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية وتركيا ودول أخرى تعرّضت خلال الشهور القلائل الماضية لهجمات ارهابية كبيرة، شهدنا بعدها الكثير من الإجراءات الاستثنائية، وشهدنا إعادة نظر في الخطط الأمنية، ومراجعات سريعة وحازمة لمستوى وطبيعة أداء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وأكثر من ذلك الذهاب الى تغيير بعض مواقع المسؤوليات.
من الطبيعي أن يكون من بين أهداف تلك الإجراءات، امتصاص الغضب الشعبي ومحاولة تهدئة النفوس، وهذا بلا شك أمر مطلوب وملح في الظروف الحرجة والمنعطفات الخطيرة. لكن في العراق يبدو أن هناك أمورًا مختلفة، قد لا تكون موجودة في أماكن أخرى، وإذا وجدت فبمقدار أقل، ولعل حزمة الإجراءات التي اعلنها العبادي تشير بصورة أو بأخرى الى ذلك.
وفي الإطار العام يمكن الإشارة الى نقاط محددة وواضحة تعكس اشكاليات عمل وأداء المنظومة الأمنية العراقية، ومن بين تلك النقاط:
-استشراء الفساد الاداري والمالي في مختلف مفاصل المؤسستين الأمنية والعسكرية، وعلى أعلى الصعد والمستويات القيادية، وهو أمر لم يعد غائبًا حتى عن أذهان وتصورات عامة الناس، ناهيك عمّن هم في مواقع المسؤوليات التنفيذية والتشريعية والرقابية والقضائية.
-اختراق المنظومة الأمنية العراقية من قبل عناصر وتنظيمات حزب "البعث" المنحل وكذلك المجموعات الإرهابية، سواء تنظيم "القاعدة" أو "داعش"، او المسميات الاخرى وهي كثيرة بلا شك.
-الانعكاسات السلبية للخلافات والتقاطعات بين مختلف القوى والكيانات السياسية على مجمل الواقع الأمني، ولعل كثير من العراقيين ينتابهم القلق الشديد، حينما يشاهدون تأزم الوضع السياسي وتصاعد حدة المواقف بين الفرقاء حول هذه القضية أو تلك.
-الإبقاء على السياقات التقليدية في العمل الأمني، والتركيز على المظاهر العسكرية، وإهمال الجانب الاستخباراتي، وهو ما يوفر بيئة خصبة وأجواء مناسبة لارتكاب العمليات الإرهابية وبنفس الأساليب والأماكن. وتفجير الكرادة الأخير خير مصداق على ذلك، ففي ذلك المكان بالذات حصلت تفجيرات ارهابية مماثلة في أوقات سابقة أودت بحياة مئات الناس الأبرياء.
-ضعف الجانب القانوني - القضائي في متابعة خيوط الجرائم الإرهابية واعتقال منفذيها ووضع اليد على الجهات المخططة ومصادر التمويل، وبالتالي إصدار الأحكام القضائية المناسبة والإسراع بتنفيذها، فهناك اليوم أعداد لا يستهان بها لملفات قضائية تعود لارهابيين ضالعين في قتل الناس الأبرياء، لم تصدر احكام بحقهم، وهناك آلاف من أحكام الإعدام الصادرة بحق ارهابيين عراقيين وآخرين من جنسيات مختلفة، لم ينفذ بهم الإعدام لأسباب تبدو غامضة وغير مفهومة.
فضلاً عن ذلك فإن المواطن العراقي يسمع بعد كل عمل ارهابي كبير عن تشكيل لجان تحقيقية لكشف الملابسات، لكنه فيما بعد لا يحصل على أية معلومة مقنعة ولا يلمس أي إجراء مقنع، وتصبح هذه اللجنة التحقيقية وتلك نسيًا منسيًا، وكأن المعنيين بزمام الأمور يراهنون على ما يسميه البعض "الذاكرة المثقوبة" للناس.
-عدم إشراك المواطن، بالجهد الشعبي في تحسين الأوضاع الامنية، أو متابعة نشاط الخلايا والجماعات الإرهابية بطريقة ممنهجة ومدروسة، خصوصًا في المدن والمناطق المستهدفة باستمرار من قبل الجماعات الإرهابية، ومنطقة الكرادة الشرقية من بينها.
وفي مقابل بقاء -أو إبقاء الدور السلبي للمواطن- مهيمنًا وطاغيًا على الدور الإيجابي، ظلّ المواطن الأعزل يمثّل الحلقة الأضعف في الاستهداف الإرهابي، لأنه يتواجد على الدوام في الشارع والسوق والمطعم والمدرسة والمستشفى ومحطة النقل والمسجد.
ومن يدقق فيما أعلنه العبادي من قرارات واجراءات أمنية يشعر لأول وهلة أنه يسعى الى معالجة النقاط الآنفة الذكر، ومن يدقق ويتمحص في مجمل المشهد الإرهابي الفظيع في الكرادة قبل أيام قلائل من مختلف أبعاده وجوانبه، يصل الى حقيقة مؤلمة مفادها أن كل الأخطاء والسلبيات والهفوات، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، ساهمت فيما حصل، ولن يتغيّر واقع الحال ما لم تتغيّر أسبابه ومسبباته بصورة جذرية، فمن يضمن ألا يحصل مثلما حصل ليل السبت الماضي في أماكن أخرى، أو حتى في الكرادة ذاتها مستقبلاً، لا سيما وأن الاخيرة تعرّضت الى عشرات العمليات الإرهابية المروعة طيلة الأعوام الثلاثة عشر الماضية التي أعقبت سقوط نظام صدام، وكانت - ومازالت- تمثل هدفًا سهلاً للارهابيين، رغم أنها تضم الكثير من مقرات الأحزاب والمؤسسات والدوائر الحكومية المهمة، ويقطنها ساسة كثيرون، فضلاً عن أنه لا يفصلها عن المنطقة الخضراء شديدة التحصين في جانب الشرخ سوى نهر دجلة.
تجربة الأعوام الماضية، كشفت أن الإرهابيين -أيًا كانت مسمياتهم- غالبًا ما يحاولون تعويض خسائرهم وجبر انكساراتهم في الميدان عبر استهداف المدنيين في الأماكن المزدحمة العامة، وبما أن مثل ذلك السلوك بات واضحًا ومفهومًا، لذا فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يصار الى اتخاذ أقصى الإجراءات الامنية الاحترازية، لقطع الطريق على العدو وتفويت الفرصة عليه، وعدم تبديد ثمار الانتصارات المتحققة، وهذا لم يحصل ولمرات عديدة، وإلا هل يعقل أن ينسى الانتصار الكبير في الفلوجة، ويخيّم تفجير الكرادة على المشهد العام، ولسان حال "داعش" يقول:"إذا هزمتمونا في الفلوجة، فيمكن أن نضربكم بسهولة في أي مكان آخر"!.
انتصارات الفلوجة وعملية الكرادة الإرهابية، تؤكد أن العدو ليس قويًا، بل انه ضعيف الى حد كبير، بيد اننا ما زلنا عاجزين، لشتى الأسباب عن المحافظة على مكاسبنا وانتصاراتنا، وعجزنا يمنح العدو مكاسب مجانية على طبق من ذهب..هذا هو جوهر الحقيقة، التي لا بد من قولها مهما كانت مرة ومؤلمة.