ارشيف من :ترجمات ودراسات

خروج بريطانيا : مدن-عوالم ... ضد دول-أمم – النخب ضد القوى غير المرئية

خروج بريطانيا : مدن-عوالم ... ضد دول-أمم –
النخب ضد القوى غير المرئية

الكاتب :  Karol
عن موقع     Agoravox الالكتروني

 

لم يكد يمر يومان على الذهول الذي أصاب النخبة المعولمة بسبب نتيجة الاستفتاء في بريطانيا، حتى قام كل من آن هيدالغو وصادق خان وهما على التوالي عمدة باريس (من الحزب الاشتراكي) وعمدة لندن (من حزب العمال)، والمدينتان هما العاصمتان الأكثر ثراءً في أوروبا، حتى قاما بنشر رأي في صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية و"الفاينانشل تايم" البريطانية، للتأكيد عالياً وبقوة بأن المدينتين حققتا المزيد من التقارب فيما بينهما رغم الخروج المحتمل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكل ذلك في ظل تناسيهما لواقع ما إذا كانت كل من المدينتين هي على ما هي عليه كـ "مدن-عوالم" مزدهرة، إنما يعود تحديداً إلى  كون كل منهما عاصمة لدول-أمم تمكنت، بفعل تاريخها الاستعماري وسياستها الاقتصادية والصناعية، مراكمة ثروات هائلة يتم تدويرها اليوم في مجالات المال والتجارة الدولية والخدمات والعقارات.

في المقالة المذكورة التي يتم فيها وضع دينامية المدن-العوالم مقابل همود الدول-الأمم، لا وجود لكلمة واحدة عن كل هذه الضحايا التي تسببت بها العولمة والسياسات الليبرالية المتطرفة، عن كل لاجئي الداخل هؤلاء ممن يقبعون في أعماق تجمعات سكنية مشوهة على حدود المدن، أو في مناطق نهبت منها تجاراتها، أو في مراكز صناعية مهجورة بعد نصف قرن حافل بالتحلل من القواعد وبعمليات ترحيل الصناعات [إلى البلدان الفقيرة].

إن هذا الاستفتاء الذي انتهى بالخروج هو تجسيد إلى حد التعبير الأكثر بساطة عن المسافة المتزايدة بين هذين العالمين اللذين يبتعدان عن بعضهما أكثر فأكثر في كل يوم. عالم سكان المدن المعولمة الذين يتمتعون بالامتيازات ويتنقلون من مدينة إلى أخرى دون أن يرفعوا عيونهم عن شاشات هواتفهم، والسعداء لكونهم يستطيعون التمتع بما لا يحصى من الخدمات بفضل البرامج الرقمية المنتشرة في أنحاء العالم. إنهم يجهلون كل شيء عن وجود العالم المستتر الذي يعيش فيه الخاسرون، عالم المتعبين و العاجزين عن إيجاد مواقع لهم في هذا الاقتصاد الجديد المقتلع من أرضه.

إن التوزيع الجغرافي لنتائج الاستفتاء هو ذو دلالة واضحة من هذه الناحية : 60 بالمئة من مناصري بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي يعيشون في لندن الكبرى واسكوتلندا؛ 95 بالمئة من مناصري الخروج يعيشون في المناطق الوسطى. أما في المناطق الصناعية الواقعة في شمال البلاد، فإن نسبة مناصري الخروج تتعدى في العديد من الأماكن الـ 60 بالمئة. إن الذين صوتوا للخروج هم المسنون والعمال وسكان الأرياف وذوو الأوضاع الهشة، وهؤلاء هم أيضاً ضحايا السياسات الليبرالية المتطرفة المعتمدة منذ أكثر من أربعين عاماً من قبل الحكومات البريطانية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي. وقد هدفت هذه السياسات إلى تدمير القطاعات الصناعية والمنجمية لصالح القطاع المالي المتمركز في لندن. ثم أن تدهور أوضاع الخدمات العامة (في مجالي الصحة والتعليم)، واللجوء إلى استخدام العمال القادمين من بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى، وكثرة عقود "صفر ساعة" في قطاعات الخدمات، كل ذلك أدى إلى زعزعة سوق العمل وإضعاف فئات واسعة من الطبقة العاملة البريطانية. وهذا ما يفسر جزئياً هذا التصويت الرافض لأوروبا التكنوقراطية  العاجزة عن تأمين الحماية لمجمل السكان. إن الفئات السكانية التي ضربها الفقر والتي تم قذفها، بسبب غلاء أسعار العقارات، أكثر فأكثر بعيداً عن المراكز المدينية التي تتوفر فيها الخدمات والتوظيفات. تلك الفئات السكانية مقتنعة بأنها لم تعد تنتظر شيئاً من مشروع أوروبي يكرس نفسه بالكامل لإقامة فضاء مفتوح أمام المنافسة الحرة والانتقال الحر لكل من السلع والرساميل والكفاءات على حساب إقامة اتحاد سياسي في فضاء اجتماعي يحمي المواطنين ويحررهم. إن الاحساس بالمرارة والكراهية عند جميع هؤلاء المنسيين المستغلين بعناية من قبل جميع ديماغوجيي الحزب الاستقلالي في المملكة المتحدة (يوكيب) وحزب المحافظين، وكلاهما عاجز عن تقديم بديل ذي مصداقية للسياسة الحالية.

إن النضالات التي خاضتها الحركة العمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين قد سمحت بإقامة دولة-أمة ضابطة للأمورأسهمت، بفضل نظامها الاجتماعي وخدماتها العامة، وعبر ري كل شبر من  أراضيها، أسهمت في انبثاق شعور بالانتماء إلى جماعة ذات مصير مشترك عند كل فرد من الأفراد. وكل هذا سمح بظهور طبقة وسطى وطبقة عاملة واسعة ومزدهرة. وجاء الانفتاح في المبادلات والتنافس بين عمال العالم ليدفع باتجاه نمو هذه المدن –العوالم التي أصبحت مراكز جديدة لإنتاج الثروة ولتراكم الكفاءات ذات الأصول المتنوعة، والتي استوعبت شيئاً فشيئاً حيوية البلاد الاقتصادية وقدراتها البشرية والمادية.
وقد ارتبطت هذه المدن المعولمة ببعضها البعض بشبكات اتصال وانتقال بالغة الناجعية على الأرض وفي الأجواء. وشيئاً فشيئاً، استقلت هذه المدن لجهة إدارتها، عن الدول التي باتت مفتقرة إلى وسائل تمكنها من تأمين الخدمات العامة والبنى التحتية في النواحي الريفية البعيدة عن المراكز المدينية والتي عانت مباشرة من تداعيات العولمة وما تخللها من عمليات هجرة الصناعات وإقفال المصانع. وفي هذه الأثناء، كان يتوجب على الدولة أن تستمر، بقدر ما تسمح إمكانياتها، في توفير الغذاء والتعليم والعناية الصحية لأولئك الذين لا يستطيعون أو لا يريدون الدخول  في هذا الاقتصاد الجديد المتداخل والمترابط في المدن العالمية الضخمة.

وبفعل الابتزاز الضريبي المفروض من قبل المجاميع الصناعية والمالية المعولمة، لم تتمكن الدول-الأمم من تأمين حد أدنى من الثروات لتضمن حداً أدنى من التضامن بين جميع المواطنين، ومن المحافظة على التجانس الاجتماعي داخل حدودها.
إن المشكلة التي يجسدها أيضاً هذا الاستفتاء البريطاني هي أن النظام الاقتصادي الذي نخضع له بات ينتج، منذ مدة من الزمن، خاسرين أكثر مما ينتج رابحين، وهذا لا يتلاءم إلا بشكل رديء مع النظام الديموقراطي الذي يسمح بالتصويت لكل مواطن غني أو فقير، ضحية أو مستفيد، صغير أو كبير، يسكن في مدينة أو في الأرياف.

خروج بريطانيا : مدن-عوالم ... ضد دول-أمم –
النخب ضد القوى غير المرئية

عالم يتشظى

أن نخبتنا، مهما بلغت من النجاح ومن الوضوح في الرؤية ومن الذكاء، ومهما بلغت من القدرة على الحركة وعلى الخروج من الخصوصيات لبلوغ العالمية،  تظل مربوطة من رجليها بكرة حديدية ضخمة. فجميع الفاشلين والخاسرين الذين أنتجتهم سياسة هذه النخبة، والذين أهملوا من قبل دولة عاجزة عن القيام بوظائفها الأساسية، يواصلون، مع هذا، بدفع من حنينهم إلى زمن مضى ولا رجوع له، يواصلون التشبث بأرض الوطن ويحلمون بفكرة شعب ذي سيادة. وهذا بالضبط ما يثير، على ما يبدو، جنون آلان مينك، الذي أكد دون أية عقد أننا في زمن "انتصار الجهلة على الذين يعلمون".

منتهى السذاجة ! لكن هذه النخبة الذكية جداً والمكونة من أمثال برنار-هنري ليفي وجهابذة الإعلام الذين يتحركون على طريقة آرنو بارمونتييه تنسى أن الفقراء والمستبعدين من كل صنف ولون ما زالوا يتمتعون بحق الانتخاب والمشاركة في اختيار مصيرهم، وأنهم يشكلون أكثرية يتزايد عدد أفرادها كل يوم في هذا العالم الذي يطغى عليه عدم تكافؤ عميق والذي ساهم في بنائه كل هؤلاء المثقفين والخبراء.    
 
.إن هذا المجتمع المتحرك بسرعتين مختلفتين يتنامى في جميع مجالات النشاط البشري.هنالك، من جهة، عالم المطارات والدرجة الأولى في قطارات تاليس وأروستار وغيرهما من أصناف القطارات الفائقة السرعة. عالم الأثرياء الذين لا عمل لهم غير الاستمتاع بالحياة، عالم الندوات واللقاءات العالمية، عالم الذين يتخذون القرارات ويعرفون التكلم بعدد من العبارات الانكليزية المفهومة عالمياً، عالم الممثلين والإعلاميين والسياسيين، عالم الرفاهية المبالغ فيها، عالم "القطاع الحر" والمستشفيات والمدارس والجامعات الرفيعة المستوى، عالم الفنادق الفخمة والأحياء السكنية الآمنة تحت الحماية المشددة. بكلمة، عالم الـ 1 بالمئة الذين يحيط بهم 20 بالمئة من الأشخاص الذين يصلحون لخدمة رفاهيتهم.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى عالم الناس الذين لا ينظر إليهم أحد، عالم الذين يعتبرونهم "غير فاعلين" أو "محتاجين للمساعدة". باختصار، عالم الخاسرين على أنواعهم ممن حكم عليهم بالعيش إلى هذا الحد أو ذاك من الراحة أمام شاشة ينظرون إليها وهم يلتهمون البطاطا المقرمشة في ضاحية بعيدة أو في قرية نائمة (1).

لقد سبق وحدث في العام 1995 أن اجتمع في ظل مؤسسة غورباتشيف "500 من رجال السياسة وكبار القادة الاقتصاديين والعلميين"، اجتمعوا في فندق فيرمون في سان فرانسيسكو حيث أمعنوا التفكير في هذا الموضوع الخطير. بدأ المجتمعون بالاعتراف بأمر بديهي لا يقبل النقاش ألا وهو : "في القرن المقبل، أي ألـ 21، فإن عشري السكان النشطين يكفون لاستمرار نشاط الاقتصاد العالمي". ماذا نفعل إذن بالـ 80 بالمئة من البشر المتبقين والفائضين عن اللزوم ممن تمت برمجة عدم فائدتهم عن طريق المنطق الليبرالي ؟ الحل الذي فرض نفسه عند انتهاء المناقشات اقترحه زبيغنيو بريجنسكي (المستشار السابق لجيمي كارتر). وهذا الحل هو عبارة عن صياغة "تشكيلة من وسائل اللهو التبهيمي والتغذية الكافية للمحافظة على حسن مزاج سكان الكوكب المحبطين".

بعد عشرين عاماً على داعيتنا الشاب لليبرالية، لا يقول غاسبار كوينغ شيئاً في المقالة التي يكتبها لصحيفة "لو فيغارو"، حيث أصابه الذهول بعد أن علم بنتائج الاستفتاء البريطاني عن طريق قائد الطائرة في رحلة من باريس إلى لندن. أليس أنه يحلم بعالم لكل طائفة وجماعة يتجمع فيه الأفراد كل حسب مصالحه اللحظوية مع تجاهل مصالح الآخرين ؟ لماذا، طالما أننا نلعب لعبة التقسيم والتقاسم، لا نذهب في اللعبة حتى نهايتها ؟ وليكن المنطق الذي يحكم اللعبة هو منطق "الجماعات المقصودة" كما يقولون في كيبيك. من صوت للبقاء في أوروبا ؟ إيرلندا الشمالية واسكتلندا ولندن. والشبيبة (بأكثريتها الساحقة 75 يالمئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً). لماذا لا يحصل أولئك أيضاً على استقلالهم ؟ لقد بات من المعروف أن زعيم الحزب الاستقلالي الاسكوتلندي، وهو شخص يتمتع بالكثير من الجاذبية، قد طلب إجراء استفتاء ثان في اسكوتلندا. كما أن عريضة قد بدأت تجول على الانترنت مطالبة بالاعتراف بمدينة لندن كدولة تتمتع باستقلال ذاتي !
ولكن ماذا نفعل إذن بهؤلاء السكان الفائضين عن الحاجة ؟ السكان المهمشون والمهشمة سواعدهم ممن خسروا السيادة الوحيدة التي يحسب حسابها، أي سيادة المرء على نفسه، على ما يقوله  السيد كوينغ ؟ إنها تلك السيادة التي يحتكرها البعض لأنفسهم ولأولئك الذين يبتسم لهم هذا العالم الليبرالي. إنها سيادة ضحايا الرأسمالية العالمية الذين ينتظرون من الدولة أن تقيم تضامناً أساسياً وأن توفر لهم سبل التحرر لتنقذهم من الوضع الذي رماهم فيه النظام الحالي.
لم نعرف بعد ما هو الدرس الذي سيستخلصه الخبراء المرموقون في بروكسيل من النصر الذي حققته فكرة الخروج من الاتحاد. ما هو مؤكد هو أن ما هو أكثر إلحاحاً هو الاهتمام بمستوى اللامساواة حول العالم. فقد وصلت اللامساواة اليوم إلى حد باتت تعرض فيه للخطر وجود حضارتنا طالما أننا لا نجد بديلاً عن الدول-الأمم التي تضمن الأمن وتقدر على تأمين مصير مشترك لجميع مواطنيها (2).

(1)-  تشير الإحصاءات الرسمية في الولايات المتحدة إلى أن عدد العاطلين عن العمل هو 5 بالمئة. لكن الحقيقة هي أن أكثر من 100 مليون شخص ممن تزيد أعمارهم عن 18 سنة لا جود لهم في سوق العمل.
(2)-  حذرت دراسة صادرة عن " Goddard Space Flight Center "، وهو مركز أبحاث مهم تابع لـ "نازا"، حذرت من انهيار حضارتنا... في غضون بضع عشرات من السنين. ما الذي تتنبأ به تلك الدراسة ؟  هل أن جرماً فضائياً ضخماً سيصطدم بالأرض، وسيقضي على الحياة البشرية كما في زمن الديناصورات ؟ لا. كارثة نووية ؟ لا، أيضاً. انهيار حضارتنا سينجم عن الاستثمار المبالغ فيه للموارد وعن اللامساواة في توزيع الثروات.
وقد حددت دراسة أعدتها عالمة الرياضيات " Safa Motesharri "  من         " National Science Foundation (Etats-Unis) " ، حددت مجموعة عوامل مترابطة هي ما سيؤدي إلى الانهيار : " ندرة الموارد بسبب الضغط الممارس على البيئة والفرز الاقتصادي بين الأغنياء والفقراء طالما لعبا دوراً في عملية الانهيار... أقله خلال الخمسة آلاف سنة المنصرمة" إنها نهاية العالم، وفق "نازا".    
 

2016-07-18