ارشيف من :نقاط على الحروف
انقلاب صورة الذات والآخر في العقل الإسرائيلي
ليلى زغيب
فعلتها المقاومة الاسلامية للمرة الثانية؛ فبعد انسحاب العام 2000 المذل نجح حزب الله في العام 2006 وقهر "إسرائيل" مرة اخرى . لقد أرخى انتصار المقاومة بثقله على مراكز الأمن القومي الإسرائيلي. وباتت حرب تموز 2006 محط بحث متواصل، لم ينفك الكيان الاسرائيلي عن دراسة سياقاتها ومجرياتها ونتائجها. لعله في ذلك، يعثر بين ركام هزائمه على بعض الإنجازات لاستعادة شيء من مكانته ووزنه العسكري في المنطقة. وقد كشف تقرير فينوغراد عن عجز إسرائيل قيادةً وجنودًا في سحق حزب الله، كما كان مخططًا في أروقة الخارجية الأمريكية. واعتراف إسرائيل بهزيمتها وفشلها في إدارة الحرب، وانبهارها بقيادة حزب الله وتعاظم قوة ذلك التنظيم اللادولتيّ، يعني تبدّلًا واضحًا في نظام الإدراك الاسرائيلي لذاته وللآخر أي لحزب الله.
والأكيد أن صورة الذات والآخر عند العقل الإسرائيلي ما قبل 2006 ليست كما بعدها. فكيف كانت تنظر إسرائيل لذاتها وللعرب؟ وكيف تبدّلت هذه الصورة بفعل الهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها بدءًا من العام 2000 حتى الـ 2006.
صورة الذات عند العقل الاسرائيلي
أكثر سمة تطغى على سلوك الاسرائيلين تجاه العرب هي "العنصرية". سلوك تأتى نتيجة عمليةٍ إدراكية للعقل الاسرائيليّ، تبلورت فيه صورة الذات والآخر بفعل التراكمات الثقافية والاجتماعية والدينية. وفي هذا السياق تتأثر عملية بناء الصورة سواء للذات أو للآخر بمجموعة عوامل، يحصرها الباحث حسين سلامة في كتابه "مباني انتاج الاخر في العقل الاسرائيلي" في ثلاثة: الاصطفاء الديني، الاغتراب الداخلي، وعقدة الاضطهاد الأبدي.
انقلاب الصورة
والأمر الآخر الذي يكرّس خصوصية عند اليهود، أن الديانة اليهودية هي أولى الديانات السماوية. ما يدخلهم في حالة من الارتقاء النفسي والفكري. وللأسفار التوراتية (أي الأجزاء الخمسة الأولى من التوراة) دور أساس في تعزيز الاستعلاء في الذات اليهودية، لما تتضمنه من نصوص تؤكد "اصطفاء" اليهود على سائر الشعوب. ونذكر من هذه الآيات " لأنك شعب مقدّس للرب الهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض"... وبالتالي ستتمظهر نظرة اليهودي لنفسه المستعلية مقابل احتقاره الآخر في سلوكه، على شكل قطيعة مع الآخر. وقد لجأ اليهود الى تشكيل "غيتوات مغلقة ثقافيًا ودينيًا وإجتماعيًا شكلت عامل نفور للآخر الرافض للذات اليهودية المنغلقة والمستعلية. وما تعرّض له اليهود من قبل الآخر، اعتبروه نوعًا من "الإضطهاد بحق الذات المصطفاة".
صورة الآخر عند العقل الإسرائيليّ
إن كانت النصوص التلمودية ساهمت بشكل كبير في رسم صورة اسرائيل لذاتها، فإن نظريات ومؤلفات المستشرقين بلورت بشكل كبير صورة الاخر في النظام الإدراكي اليهودي. وتبدو صورة العرب المسلمين في هذه المؤلفات قاتمة جدًا، وتنسب إليها كل الصفات التي تشير الى العدائية والتخلّف واللاحضارة. وقد انسحبت هذه القوالب الذهنية المسيئة للمسلمين العرب إلى أدبيات وخطابات المنظّرين الاوائل للحركة الصهيونية أمثال موشيه هس وتيودور هرتزل. ويرى الكاتب فيصل دراج في كتابه "التلفيق والعدوانية في الايديولوجية الصهيونية"، أنه الى جانب اعتماد المؤسسين الاسرائيليين للنسق الفكري المصاغ من قبل المستشرقين، سعت الصهيونية وهي تتوسل نصوصًا أسطورية يهودية قديمة الى استنفار الطاقة العدوانية والانتقامية عند اليهود كي تبرهن ان الانسان اليهودي يحتقن فضائل الرجل الابيض ويقف فوقة ايضا".
ما بعد حرب تموز.. انقلاب الصورة
من منا لم يترسخ في ذاكرته ذلك المشهد الذي يظهر فيه أحد المستوطنين الإسرائيلين يقول "إذا السيد نصر الله يقول ان نبقى في الملاجئ، فعلينا أن نبقى في الملاجئ" ! شخصية السيد حسن نصر الله وما تتحلى به من صفات الصدق والشجاعة لاقت هالة وتقديرًا من الاسرائيليين أنفسهم، حتى باتت" صورة السيد حسن بعيون اسرائيلية" مادة مهمة للدراسات الاسرائيلية في مراكز الابحاث للاجهزة الامنية التابعة لها. وما اعتدناه على الاسرائيلين في تصوير الاخر بالضعيف والعاجز، نراه اليوم وهو يعترف بصيغة "أفعل التفضيل" أن حزب الله بات " أقوى" المنظمات في العالم. والأمر لم يتوقف على هذا الحد، فـ "كارمي غيلون"، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات الإسرائيلية الشاباك، يقر بأنه لو كان العرب منذ العام 1948 على شاكلة حزب الله، لما استطاعوا اعلان قيام دولة اسرائيل...
إذا، شكلت حرب لبنان الثانية صفعة كبيرة في وعي الاسرائيليين، وساهمت في كيّه، مرسخةً ما قاله السيد حسن نصر الله في خطاب التحرير الشهير عام 2000 بأن " اسرائيل أوهن من بيت العنكبوت". فإن كان النسق الفكري الإسرائيلي المصاغ منذ القرن التاسع عشر حتى ما قبل تحرير جنوب لبنان عام 2000 قد أسس لكيانٍ اسرائيلي غاصب على ارض فلسطين، فهل سنشهد زوالها بعد انقلاب الصورة وتبدّد المشهد وتغير موازين القوى!..