ارشيف من :آراء وتحليلات
تركيا الى اين ؟ جمهورية إسلامية على الطريقة العثمانية
في وقت كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يُنفذ انقلابا سياسيا ھادئا في علاقات تركيا وسياستھا الخارجية، نُفِّذ ضده انقلاب عسكري صاخب ومفاجئ. ھذا الانقلاب، الذي لم يدم إلا لساعات، كان كافيا لھز دعائم الاستقرار السياسي في تركيا، إذ يُعد أھم تحدٍ لسلطة أردوغان وأخطر قطوع داخلي تعيشه تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة...
فما الذي أدى إلى الإنقلاب، ولماذا حدث؟ وما هي الأسباب؟ ومن خطط ودبر ونفذ؟
تاريخ تركيا الحديث حافل بالانقلابات العسكرية، لكن، انقلاب 15 تموز وبخلاف الانقلابات العسكرية السابقة، لم تقم به قيادة القوات المسلحة بكل أركانھا ولم تتوافر له تغطية عليا وشاملة من قادة الجيش، وإنما تم عبر مجموعة عسكرية محدودة. العقل المدبّر لھا كان القائد السابق وليس الحالي، لسلاح الجو الجنرال آقين أوزتورك ومن عاونه كانوا قادة فرق أو ألوية من رتب متدنية أغلبھم من رتبة عقيد وما دون، وأما عمليات الاعتقال التي جرت في صفوف كبار الضباط والجنرالات، فإنھا حصلت في معظمھا ليس بسبب مشاركتھم في الانقلاب، وإنما لمجرد أنھم مشتبه بھم وجاءت فرصة التخلص منھم.
على المستوى السياسي وجه أردوغان الاتھام في ھذه المحاولة على الفور الى الداعية الإسلامي فتح لله غولن الذي يعيش في المنفى الأميركي. وقد يكون اتھام غولن صحيحا وقد لا يكون، ولكن بالتأكيد أردوغان استغل المحاولة لشن حملة تصفية شاملة ليس ضد الانقلابيين والمشتبه في موالاتھم لـ"غولن"، ومن هم داخل الجيش فقط ، وإنما في القضاء، حيث حصلت "مجزرة أولية" بعزل نحو ثلاثة آلاف قاضٍ واعتقال أكثر من ألف آخرين. فالصراع بين أردوغان وغولن ھو جزء من الصورة وجزء صغير، والصراع في تركيا واسع ومتشعب بين نھجين ومشروعين، إسلامي وعلماني، وبين قوميتين: تركية وكردية، وبين مذھبين: سني وعلوي.
خبراء في الشؤون التركية أرجعوا فشل الانقلاب الى عوامل عدة، منها أن:
- المحاولة الانقلابية افتقدت تغطيةً عليا من قادة الجيش، فظھرت المحاولة الانقلابية انقلاباً على السلطة السياسية من جھة، وعلى السلطة العسكرية من جھة ثانية. وبدلاً من أن تعتقل السياسيين، اعتقلت القيادات العسكرية.
- الأدوات المستخدمة في المحاولة الانقلابية كانت متواضعة ومحدودة. فعدد الدبابات والمدرعات والطوافات العسكرية و حتى المقاتلات، كان قليلاً جداً، لا يوفر نجاح أي محاولة انقلابية.
- قُمعت الحركة الانقلابية من جانب "جيش" البوليس، ومعھا جيش الاستخبارات. وھذا الجيش كان معروفاً منذ سنوات أنه جيش حزب العدالة والتنمية، ويكاد يقارب بتجھيزاته وعديده الجيش النظامي، وكان بمثابة الجيش الموازي للجيش النظامي.
- دعوة أردوغان الشعب التركي للنزول إلى الشارع، حسمت الموقف ضد الانقلاب حيث نزل الشعب بكثافة في شوارع إسطنبول وأنقره. وكان واضحاً أن الجيش التركي بات في مواجھة الشعب التركي، وليس في مواجھة الحكومة. ولم يكن الشعب بنزوله واصطدامه مع الانقلابيين يدافع عن أردوغان وحكومته فقط. وإنما كان يدافع عن حقه في تقرير مصيره، وعن صوته في تقرير مستقبله ومستقبل بلاده.
- افتقدت المحاولة الانقلابية إلى الھدف السياسي الجاد. فأي انقلاب يبدأ بمحاصرة المؤسسات السياسية من رئاسة الجمھورية ورئاسة الحكومة ووزارة الخارجية والداخلية والبرلمان واعتقال المسؤولين أو وضعھم في الإقامة الجبرية. وهذا لم يحصل أبداً.
- ھناك موقف أحزاب المعارضة، التي وقفت ضد الانقلاب ليس حباً في أردوغان وحزبه، وإنما إدراكاً من قادتھا بأن ھذا الانقلاب يُنھي التجربة الديمقراطية، ومعھا يُنھي صدقية الدستور ومرجعيته، وصدقية العملية السياسية برمتھا ما يشكل تھديداً لكل تركيا ومستقبلھا السياسي.
- وأخيراً، لا يمكن تجاھل موقف المجتمع المدني وطبقة النخبة التركية، فلم يندفع أغلب ھؤلاء على الأقل مع الانقلاب كما حصل في الحالة المصرية. بل على العكس، رفضوا الانقلاب كخيار سياسي بغض النظر عن موقفھم من الحكومة.
تركيا الجديدة ...اردوغانية
هذه الأسباب وغيرها دفعت أردوغان إلى استغلال الظرف الى أقصى الحدود لتعزيز قبضته على السلطة وتصفية خصومه في القضاء والإعلام والجيش، الذي يعد من أقدم الجيوش في العالم، وثاني أكبر جيش في الناتو بعد الجيش الأميركي، ويحتل المرتبة الـ 15 عالميا على مستوى الإنفاق العسكري. وعلاقة الجيش بالشأن السياسي شهدت تحولا جذريا بعد مجيء حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى السلطة العام 2003، حيث أُدخلت تعديلات جوھرية على دور الجيش منها :
- تقليص عدد العسكر داخل مجلس الأمن القومي إلى خمسة مقابل تسعة مدنيين.
- قرارات مجلس الأمن القومي لم تعد ملزمة.
- الأمين العام للمجلس المدني يتبع رئيس الوزراء.
- إخضاع تصرفات الجيش لمراقبة البرلمان.
- كما شھد عام 2013، إقرار البرلمان التركي تعديلات على عقيدة الجيش، يقضي بأن الجيش يدافع عن المواطنين ضد التھديدات الخارجية، وذلك عوضا عن العقيدة السابقة التي تقول إن الجيش يحمي العلمانية في تركيا.
المحاولة الانقلابية عكست وجود أجواء تذمر وتململ داخل تركيا، وتمثل جزءا ونوعا من حالة اعتراضية داخل المؤسسة العسكرية على نھج أردوغان وسياساته:
في الداخل كالاستئثار بالسلطة ومصادرة السلطات، وتغيير الطبيعة العلمانية للدولة وجعلھا أكثر تدينا، و تردي الأوضاع الأمنية نتيجة للتفجيرات الإرھابية والحرب المتجددة مع الأكراد وسقوط الاستقرار الأمني وتراجع الوضع الاقتصادي والسياحي.
في الخارج كسياسات أردوغان المتقلبة التي كانت وصلت الى أقصى التصعيد مع روسيا وإسرائيل وتحولت منذ أسابيع الى اتفاقيات مصالحة وتطبيع مرفقة بإشارات في اتجاه سوريا تفيد بإمكانية حصول مقاربة جديدة للأزمة وطريقة حلھا...
لذلك شكلت المؤسسة العسكرية مصدر متاعب للسلطة السياسية، الأمر الذي دفع بالحكومة التركية بعد السيطرة على الانقلاب إلى إعادة هيكلية المؤسسة العسكرية وإفقادها حريتها في التصرف. كما سعى أردوغان إلى وضع القوات المسلحة والمخابرات الوطنية تحت إمرة رئاسة الجمھورية، وبحسب النظام البرلماني المطبق في تركيا حاليا، تقع القوات المسلحة والمخابرات تحت إمرة الحكومة، ويرى مراقبون أن ھذه الخطوة تدشن جزئيا النظام الرئاسي الذي يسعى أردوغان لتطبيقه ولكن دون صدام مع المعارضة في الوقت الراھن.
لكن، "انتصار أردوغان" ومشروعه الإسلامي هذا، لا يلغي الجانب الآخر من الصورة والواقع الذي يفيد:
- بالانكسار المعنوي والبنيوي في هيبة الجيش التركي، بعدما تعرض الجنود للإھانة والإذلال، في موازاة أوسع عملية اعتقالات وتوقيفات أفرغت المؤسسة العسكرية من كوادرھا.
- دخول تركيا مرحلة من عدم الاستقرار الداخلي ومن الأزمات المتعددة الأشكال والمخاطر منها: إرھاب "داعش"، الأزمة المفتوحة مع الأكراد، والآن مشكلة أردوغان مع جزء من الجيش التركي، والمحاولة الانقلابية على رغم فشلھا ھزت صورة الاستقرار التركي ووجھت لھا ضربة موجعة.
يضاف إليها الضرر اللاحق بعلاقة تركيا مع الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، ومع أوروبا بالدرجة الثانية، فالأوروبيون قلقون من اندفاع أردوغان الى سياسة انتقامية تطيح دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتؤدي الى إطاحة مفاوضات أو محاولة انضمام تركيا الى عضوية الاتحاد الأوروبي. وهذا ما دفعهم إلى التساؤل عن مصير ومستقبل تركيا التي تواجه احتمال وإمكانية التحول الى "جمھورية إسلامية" والى "منصة إسلامية" متقدمة على أبواب أوروبا، مما قد يحولها إلى أن تكون سببا في تغذية ورعاية حالة إسلامية متحفزة للتسلل الى أوروبا والتغلغل فيھا. ومما لا شك فيه أن المجتمع الدولي الغربي مھتم باستقرار تركيا وسط منطقة متفجرة غارقة في الفوضى ومھددة للسلم العالمي.
وهنا يتبادر سؤال، تركيا إلى أين؟
تركيا دخلت مرحلة "التحول الكبير" وھي المرحلة الثالثة في مئة عام:
المرحلة الأولى ھي المرحلة "الأتاتوركية" التي امتدت لعقود وكانت "تركيا العلمانية" بحماية الجيش وفي عھدته.
المرحلة الثانية بدأت في العام 2000، وكانت مرحلة انتقالية تأرجحت فيھا تركيا بين مسارين علماني وإسلامي، وسط تقدم بالنقاط للنھج الإسلامي. فباتت تركيا دولة ذات وجه إسلامي ولم يعد الطابع العلماني يغلب عليها، وإنما دخل في مرحلة انكفاء وانحسار متدرج.
المرحلة الثالثة بدأت في 15 تموز 2016، إنھا المرحلة "الأردوغانية" التي ستعلن انتھاء تركيا القديمة، تركيا أتاتورك والعلمانية وولادة تركيا الجديدة، تركيا أردوغان والإسلام السياسي وحزب العدالة والتنمية.
أھمية ما حدث يكمن أولا في أنه "أنھى" وظيفة الجيش التركي كحارس للعلمانية ومؤتمن على "إرث أتاتورك"، وفي أنه يُدخل تركيا في مرحلة "التأسيس الثاني" لـ"الجمھورية الثانية" التي ستكون في الواقع "جمھورية إسلامية".
ھذا المنحى "التعسفي الإلغائي" الذي يسلكه أردوغان في لعبة الإمساك والسيطرة داخلياً، قابله تساھل وتنازل في الخارج وتحديدا في المجالين الروسي والسوري:
- أردوغان يتجه الى تطوير التقارب والعلاقة مع روسيا، ھذا التقارب بدأ قبل أيام قليلة من المحاولة الانقلابية وجاء في ذروة التوتر التركي الأميركي الذي تفاقم بفعل الانقلاب مع مطالبة أنقرة واشنطن بتسليمھا "غولن" وتحفظ واشنطن على ذلك، ثم إقدامھا على إصدار تنبيھات الى أردوغان بضرورة احترام "سيادة القانون وعدم المبالغة" في إجراءات انتقامية.
- أردوغان يتجه الى تغيير ملموس في تعاطيه مع الأزمة السورية ومقاربته لھا، وآخر مؤشر كان ما قاله أمام حشد شعبي في اسطنبول من أن بلاده ستطرح خلافاتھا مع دول الجوار وراء ظھرھا. وھذا التغيير يبدأ باجتماعات أمنية تركية سورية سرية ويتطور الأمر الى القبول ببقاء الرئيس الأسد لفترة انتقالية والى إعادة العلاقات مع دمشق.
أما علاقته مع واشنطن فقد شهدت تدهوراً بسبب سوريا ، وهذا ھو السبب المباشر لتقربه من موسكو، بالإضافة إلى بروز خطر الكيان الكردي على حدود تركيا، مما دفعه لتغيير موقفه من الرئيس الأسد. يضاف عليها حركة التغييرات الواسعة في صفوف الجيش التركي التي أحدثت تجاذبا واسعا بين أنقرة وواشنطن نتيجة الإطاحة بعشرات الجنرالات، الذين تعتبرھم واشنطن بمثابة حلفاء لها، مبدية قلقھا من أن يؤثر التغيير الھيكلي في الجيش التركي على حرب التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش". وهذا ما دفع قائد أركان الجيش الأميركي جوزف دانفور لزيارة أنقرة لمحاولة رأب الصدع في العلاقات بين البلدين ومؤسستيھما العسكريتين، بعد اتھام أردوغان واشنطن ومسؤوليھا العسكريين وبينھم فوتيل بدعم الانقلابيين ومحاباتھم، وردت واشنطن على اتھامات أردوغان بأن "أي تلميح إلى ضلوع الولايات المتحدة في المحاولة الانقلابية خاطئ بالكامل".
باختصار، محاولة الانقلاب انتھت على الأرض ولكن تداعياتھا وارتداداتھا ستستمر... أردوغان خرج أقوى، ولكن مع قمع أشد، وتركيا خرجت أضعف، لكن، مع أزمة حكم وھوية...