ارشيف من :آراء وتحليلات

أردوغان بين ارتياب بوتين وتوجّس أوباما

أردوغان بين ارتياب بوتين وتوجّس أوباما

فيما كانت الأنظار تتجه الى ما سيحمله لقاء بوتين – أردوغان من نتائج من شأنها تغذية فرص تهدئة المعارك المستعرة على أكثر من جبهة في المنطقة، وخصوصاً سوريا، أرسلت الولايات المتحدة الكثير من إشارات عدم الرضا على التقارب الروسي – التركي. تُرجمت هذه الإشارات على شكل تصعيد للمعارك في اليمن، والموافقة على بيع السعودية عتاد عسكري بقيمة 1.15 مليار دولار، قالت تقارير إن قسماً منها سيُخصّص لشراء أسلحة للجماعات مسلّحة في سوريا.

في سانت بطرسبورغ، فضّل الرئيسان الروسي والتركي إبقاء مباحثاتهما حول الملف السوري طي السرية والكتمان. إشراك المسؤولين الأمنيين والعسكريين ووزراء الخارجية في اللقاء المسائي الذي جمع بوتين وأردوغان بعد مؤتمرهما الصحفي الثلاثاء، أسهم بشكل كبير في إبقاء فحوى المحادثات بعيدة عن الأضواء. غير أن مطّلعين على أجواء الزيارة لخّصوا خلاصات اللقاء المسائي بالقول إن تركيا تريد "هبوطاً آمناً" بعد تحلقيها بعيداً في كل ما يتعلّق بالمنطقة من ملفات ملتهبة. الهبوط الاضطراري الذي كانت محاولة الانقلاب الفاشلة سببها المباشر، أراده أردوغان أن يكون عبر "المهبط" الروسي.

كما هو معروف، فإن التوجّه التركي إلى روسيا تحديداً، أتى بعد توتّر علاقات أنقرة مع واشنطن على خلفية اتهامها بالتورّط بمحاولة الانقلاب والتستّر على الداعية فتح الله غولن، المتهم الأساسي والمباشر من قبل أنقرة والذي يتخذ من بنسلفانياً ملجأ له. وأتى أيضاً بعد تصاعد الخلافات والانتقادات بين تركيا والإتحاد الأوروبي على خلفية الضغوط التي تتعرّض لها أنقرة بسبب الإجراءات التي اتخذتها كردّ فعل على "الانقلابيين".

أردوغان بين ارتياب بوتين وتوجّس أوباما

اردوغان وبوتين

في هذا السياق، يقول المطّلعون على لقاء سانت بطرسبورغ، إن أردوغان أراد للزيارة وما رافقها من كشف إعلامي عن طريقة اعتذاره والوسطاء بينه وبين بوتين، أن تكون كلها بمثابة "فعالية شُكر" للرئيس الروسي على الدور الذي لعبته بلاده في تنبيه الحُكم التركي لمحاولة الانقلاب التي تعرّض لها، قبل وقوعها بوقت كان كافياً لإحباطها. في المقابل، بيّنت المشاورات ومحصّلتها إلى أن الطرف الروسي ظل يتعاطى مع "الانعطافة" التركية صوبه بكثير من الحذر. هذا ما يفسّر إعلان الرئيس الروسي أن العقوبات التي تفرضها بلاده على تركيا ستُرفع بشكل "تدريجي". أيضاً، لن يبدأ استئناف تطبيع العلاقات الاقتصادية والتجارية والزراعية بين البلدين قبل بداية العام الجديد على أقرب تقدير. تقول المصادر إن الطرف الروسي أخضع الإندفاعة التركية لمرحلة "اختبار نوايا"، ما يؤشر إلى أن الثقة بوتين بأردوغان تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد قبل أن تصبح سارية المفعول.

وعليه، لا تتوقّع موسكو أن تغيّر أنقرة من لهجتها "المعلنة" حيال سوريا عموماً، وحيال مصير الرئيس بشّار الأسد خصوصاً. على الرغم من أن وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، قال أمس، إن الانتقال السياسي في سوريا غير ممكن بوجود الرئيس الأسد، غير أن إبراهيم قالين، الناطق باسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قال في أول موقف رسمي تركي من الرئيس الأسد بعد قمة بوتين – أردوغان، إنه "من السابق لأوانه الحديث عن انتقال سياسي محتمل في سوريا بمشاركة الرئيس بشار الأسد". في مناسبات سابقة، كان أردوغان يذكّر العالم يومياً بأن على الرئيس الأسد الرحيل فوراً.

تنتظر موسكو المزيد من الخطوات التركية لبناء الثقة انطلاقاً من سوريا وصولاً إلى كل القضايا والملفات التي تهم البلدين. مثلاً، هل يُعتبر إعلان وزير الخارجية أن بلاده اتفقت مع روسيا على إنشاء آلية مشتركة لدعم التسوية السورية أقوى وأكثر فعالية وعلى مستوى أرفع مما كانت عليه من ذي قبل، خطوة جديّة في مسار بناء الثقة مع روسيا حيال سوريا؟ تقول المصادر إن مراقبة مسار الميدان السوري، وفي مقدمته ما يجري في حلب، ما بعد قمة سانت بطرسبورغ، سيعطي إشارات واضحة تساعد في الإجابة عن مثل هكذا أسئلة.

أميركياً، لم تبدِ واشنطن الكثير من السرور لخطوة التقارب الروسي – التركي. لكنها أملت ألا يؤثر تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا على المصالح الأميركية في المنطقة. في حسابات الإدارة الأميركية لا تغيب سوريا ولا الدور التركي فيها. في أول تعليق رسمي أميركي على قمة سانت بطرسبورغ، امتنعت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية إليزابيث ترودو، عن التعليق على الجوانب الثنائية للمباحثات الروسية – التركية، وعلى رأسها عملهما المشترك على إيجاد تسوية للملف السوري. يعتقد الأميركيّون أن بوتين وافق على التقارب مع أردوغان، وطي صفحة ما بعد إسقاط "السوخوي"، فيما عينه على تركيا العضو  البارز في حلف شمال الأطلسي. يخشى الأميركيون من "إسفين" روسي في معسكر الناتو.

تتعاظم الخشية الأميركية هذه يومياً. أخيراً، انضمت تركيا إلى بنك المعلومات الدولي الذي شكّله جهاز الأمن الفدرالي الروسي عام 2008 بهدف مكافحة الإرهاب. أصبحت تركيا شريكاً في هذه المبادرة الروسية الإستخباراتية الى جانب 29 بلداً بينها فيتنام والصين وهولندا إضافة إلى الأمم المتحدة. بالأمس فقط، وعشية استقبالها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، أعلنت أنقرة استعدادها لدراسة إمكانية شن عملية عسكرية مشتركة مع روسيا ضد "داعش". بالمناسبة، يزور ظريف أنقرة ويلتقي كبار مسؤوليها على رأسهم رجب طيب أردوغان .
صحيح أن واشنطن قلقة من "لهجة القيادة التركية المعادية" للولايات المتحدة في الفترة الأخيرة، غير أنها لا تعتقد عميقاً بأن أنقرة يُمكن أن تدير ظهرها لها وتذهب بعيداً في أحضان القيصر الروسي. حتى في واشنطن ينظرون إلى رحلة أردوغان الى سانت بطرسبورغ على أنها "ردّة فعل".. هذا بالضبط ما يجعل سيّد الكرملين "محتاطاً" حيال إندفاعة أردوغان.

2016-08-12