ارشيف من :آراء وتحليلات
أوروبا الخائفة : الإرهاب أولا او حروب اهلية صغيرة
لم يعد للإرهاب المتنقل وخاصةً في أوروبا مكان وزمان يتقيد بهما . فقد أصبحت الساحة الأوروبية مكشوفة امنياً ، وباتت تحت رحمة الضربات الإرھابية المتنقلة في أوروبا عامة وألمانيا وفرنسا خاصةً. بدأ الإرهاب يغيّر كل شيء في أوروبا، حياة الناس ومزاجھم وإيقاع الحركة العامة، المزاج الشعبي والمناخ النفسي، الأولويات والاستراتيجيات الأمنية، السياسة الخارجية...إلخ.
فخلال أقل من شھروقعت عدة عمليات واعتداءات إرهابية، في ألمانيا وفي فرنسا حيث كان أكثرھا إيلاما ووقعا تلك التي حدثت داخل كنيسة "سانت إتيان دو روفريه" في منطقة النورماندي،"، وتأتي أهمية هذه الحادثة في أنها ضربت مسقط رأس الرئيس الفرنسي فرنسوا ھولاند، وحصلت خلال القداس الصباحي ، حيث اقتحم إرھابيان اثنان الكنيسة من الباب الخلفي معلنين عن تبعيتهما لتنظيم "داعش "، وعمدا سريعا إلى ذبح الكاھن جاك ھامل وإصابة راھبة بجروح بالغة قبل أن يقررا مغادرة الكنيسة، ليجدوا قوة التدخل التابعة للشرطة بانتظارھما فأطلقت عليھما النار وأردتھما قتيلين.
هذه الحادثة وغيرها التي ضربت أوروبا عامة وفرنسا خاصة لها أسباب عميقة تتجاوز إعلان باريس عن تعزيز مشاركتھا في العمليات الحربية في سوريا والعراق ضد "داعش". وقد ذكر مراقبون أبرز نتائجها ومتغيراتها على الساحة الأمنية الأوروبية، بالتالي:
1 - نجح الإرھاب في زعزعة الأمن الأوروبي. فلم تعد أوروبا آمنة والخطر صار قائما في كل مكان، ونجح أيضا في بث حالة قلق وخوف ورعب في المجتمعات والشوارع الأوروبية، لا سيما في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، حيث من الممكن في أي مكان وفي أي وقت أن يظھر مجرم قاتل يرتكب مذبحة منفردا بين جموع المتسوقين كما في ميونيخ، أو جموع المحتفلين كما في نيس، أو جموع مصلين كما في كنيسة "سانت إتيان دو روفريه "، ولم تعد الھجمات محصورة بالسلاح والمتفجرات، وإنما صارت ممكنة بكل الوسائل المتاحة والتي في متناول اليد مثل السكاكين والشاحنات، وصار من الصعب جدا والمستحيل منع حصولھا...
2 – هذه الهجمات الارهابية فضحت العجز الأمني الواضح لدى الحكومات والسلطات الأوروبية. فأوروبا لم تعتد ھذا النوع من الإرھاب، المنظم في مساره، العشوائي في ضرباته، ولا تملك الاستراتيجيات الأمنية اللازمة لمحاربته.
3- كما أظهرت هذه الضربات أو الحوادث المتنقلة خطرها على التماسك الاجتماعي وأيضا السلم الأھلي الذي بات مھددا في أوروبا مع دخولھا في دوامة الأفعال وردود الأفعال، وحيث التطرف يستولد التطرف والإرھاب سيقابل بالعنف الذي بدأ يطال تجمعات اللاجئين والتعصب سيعزز مشاعر العنصرية والكراھية لكل من ھو من أصول عربية وأفريقية ومن له سحنة سمراء ومن يرخي لحيته أو ترتدي حجابا...
والنتيجة الحتمية والطبيعية لھذا الوضع أن تزداد شعبية اليمين المتطرف الذي استغل هذه الهجمات المتطرفة لـ تنظيم "داعش" وأخواته، واعتبارها ھدايا ثمينة لرفد حملاته الانتخابية وتعزيز حظوظه في الوصول الى الحكم لتغيير القوانين والتشريعات والسياسات، بعدما صار الخوف ھو الناخب الأقوى وصارت الدعوات الى الانعزال وإقفال أبواب أوروبا وحدودھا ھو المحرك الأول لاتجاھات الرأي العام.
اوروبا امام الاحتمالات الصعبة
وھذا الوضع الشعبي سيترجم قريبا في انتخابات ألمانيا بأيلول، حيث تواجه ميركل اختبارا حاسما مع تعاظم الانتقادات لسياستھا في فتح أبواب ألمانيا أمام اللاجئين، وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، حيث يواجه ھولاند وحكومته انتقادات قاسية على التساھل والتراخي والعجز والثرثرة...
فالأولوية المطلقة عند الأوروبيين صارت "الأمن ومحاربة الإرھاب ". لا أولوية تتقدم عندھم على "ھزيمة "داعش" والقضاء عليه"، وھذا يعني أن الانخراط الأوروبي في الحرب ضد "داعش" في سوريا والعراق سيقوى، وأن مقاربة أزمات المنطقة وأولھا الأزمة السورية ستتم من زاوية مختلفة. فالخطر يتھدد فعلا الاتحاد الأوروبي، أمنيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وبات يكتسب صفة الخطر الوجودي.
..
فقبل هجمات نيس وميونخ أجرى البرلمان الأوروبي "المسح الاستفتاء" في كل دول أوروبا، ونشره مؤخراً. هذا المسحٍ للرأي العام شمل نحو ثلاثين ألف شخص من دول الاتحاد الـ 28 ، ورداً على سؤال ما ھي الأولوية الآن؟ جاءت النتيجة أن 82 في المئة رأى أن "محاربة الإرھاب" لھا الصدارة والأولوية.
وفي نفس السياق، كشف تقرير عن الإرھاب في أوروبا انخراط نحو 4 آلاف مقاتل أجنبي من الاتحاد الأوروبي في جبھات القتال في سوريا والعراق. وذكر التقرير، وھو عن "الحقوق الأساسية في العام 2016 "، أعدته وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية (FRA) ، ومقرھا فيينا، أن التقديرات تشير الى أن بين 5 و 10 في المئة من إجمالي ھؤلاء قد لقوا حتفھم، وأن أكثر من 10 - 30 في المئة من المقاتلين قد ترك مناطق الحرب وعاد الى وطنه أو بقي في أحد بلدان العبور.
وحذر التقرير من أن ھناك القليل من المعلومات الموثوقة عن ظاھرة المقاتلين الأجانب، وتضمن جدولا بأعداد تقديرية للمقاتلين من 12 دولة من الاتحاد الأوروبي، مبيّنا أن فرنسا تتصدر البلدان الأوروبية في عدد المقاتلين الأجانب مع 1550، تليھا ألمانيا ( 700 )، ثم المملكة المتحدة ( 700 )، بلجيكا ( 440 )، وأخيرا إيطاليا 80 مقاتلا فقط.
وذكر التقرير أن التقديرات لم تتم وفقا لعدد سكان البلدان منفردة، كما لم يذكر إن كانت تشمل الأوروبيين الذين سافروا الى سوريا للقتال مع قوات البشمركة الكردية ضد تنظيم "داعش"، وھي ظاھرة أقل مقارنة بالجھاديين الذين انضموا الى "داعش" أو"جبھة النصرة"، بل إن المعطيات جاءت وفقا لأحدث تقرير حول ظاھرة المقاتلين الأجانب للمركز الدولي لمكافحة الإرھاب في لاھاي.
باختصار،كل المؤشرات تدل الى أن ما تشھده أوروبا ھو مسار حرب طويلة وأساليب جديدة لا تعرف الأجھزة الأمنية والاستخباراتية كيفية مواجھتھا بأساليبھا التقليدية، وتحد من حركتھا تشريعات وأصول قانونية. ولذلك ليس أمام الأوروبيين إلا التعايش مع واقع انعدام الأمن واعتياد ھذا الواقع الحياتي الخطر، إلا أن أكثر ما يؤزم الموقف هو الخوف من خروج الأمور عن السيطرة، وتحولها إلى حروب أهلية صغيرة تتدرج الى فتنة دينية (اسلامية – مسيحية) تحول أوروبا إلى جحيم يشبه ما يجري في الشرق الأوسط.