ارشيف من :آراء وتحليلات

العروبة؛ خيار استراتيجي أم واقع عِرقي؟

العروبة؛ خيار استراتيجي أم واقع عِرقي؟

قدمنا في المقال الأول من هذه السلسلة دفعنا المجمل بأن ما درجنا على وصفه بأنه "بواعث" و"مقومات" الوحدة العربية من لغة، ودين، وتاريخ مشترك، وتجانس عرقي، إنما هي في حقيقتها "مسوغات" وحدوية تدعم الوحدة لو قامت، ولكنها ليست بواعثا تدفع الشعوب نحوها، وليست مقوماتٍ تضمن بقاءها! وأن المقوم الأساس للوحدة العربية هو الجغرافيا المعبرة عن المصالح والأخطار المشتركة، والتي أثبتت عبر تاريخ البشر أنها المقوم الأدوم والأقوم للتجارب الوحدوية الناجحة! بهذا بدأنا دفعنا مجملا على وعد بأن نفصله في مقالات لاحقة، واليوم نبدأ هذا التفصيل بتناول مبحث اللغة!

 

اللغة؛ باعث ومقوم أم مسوغ وحدوي؟  

لا ريب أن وحدة اللغة تضاعف من قابلية التجانس والتفاهم والعيش المشترك، وهذا هو ما نعنيه بدورها التسويغي، ولكن هل تدفع الشعوب نحو الوحدة؟ وهل هي ضمانة بقاء لها؟ تاريخ البشر يقول بأن حركة اللغة تابعة لحركة الموجات البشرية والنفوذ السياسي لشعب من الشعوب، وليست باعثا لها! تكتسبها شعوب منطقة أو مناطق بعينها مع انضواء تلك المناطق تحت لواء يوحدها، ثم تبدأ في التشتت والتباعد بانهيار هذه الوحدة! والأمثلة على هذا عديدة؛

(١) انتشرت اللغة اللاتينية المنسوبة لمقاطعة لاتيا الإيطالية بين شعوب أوروبا باتساع الإمبراطورية الرومانية لتحل محل اللغات المحلية بحوض المتوسط ووسط وغرب أوروبا، ثم تآكلت بانهيار الدولة الرومانية، فظهرت اللهجات المحلية والتي تطورت بدورها لتتمايز إلى اللغات الحية اليوم في هذه المنطقة مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية والرومانية وغيرها! وعلى هذا فقد عكست اللغة واقع تحلل الدولة الرومانية ولم تشكل ضمانة لاستمرارها!

(٢) اللغة الإسبانية انتشرت بزمن الاكتشافات الجغرافية، ومع توسع النفوذ الإسباني في أمريكا اللاتينية لتصبح لغة مسيطرة لعدة قرون، ومع انتهاء النفوذ الإسباني تنامت لهجات محلية في تلك الشعوب فظهرت الإسبانية المكسيكية والإسبانية الكوبية ... إلخ! والصيرورة الطبيعية لتلك اللهجات إلى تمايز مستمر قد تنتهي به بعد عدة قرون إلى لغات متعددة تكون الإسبانية جذرا لغويا لها!

العروبة؛ خيار استراتيجي أم واقع عِرقي؟

العروبة خيار او واقع عرقي؟

(٣) انتشرت اللغة العربية إلى شعوب ما نعرفه اليوم بالعالم العربي مع اتساع رقعة الفتوح الإسلامية المتلاحقة عبر عدة دول، ومرت بمراحل سجال وصراع مع اللغات المحلية في الشام ومصر وشمال إفريقيا ووسطها، وبدأت اللهجات العربية المحلية في الظهور بشكل لهجات عامية بالأساس، ولكنها كذلك امتدت إلى اللغة الفصحى الرسمية بفروق قد تبدو اليوم طفيفة بين الاصطلاح والمفردات المستخدمة على صعيد رسمي في مصر وسوريا والجزائر مثلا! ولكن صيرورتها إلى تفرق!

(٤)  قصة نشوء وتطور اللغة العربية قبل الإسلام تعكس أثر حركة الأمواج البشرية والنفوذ السياسي والديني والثقافي للقبائل على تطور اللغة! فقد كانت اللهجات العربية قبل الإسلام شديدة التباين، وقد وصف "الطبري" هذا الحال بقوله السديد "كانت العرب وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفوالألسن بالبيان متباينو المنطق والكلام"! فمن يطالع النصوص العربية القديمة التي سبقت نزول القرآن بأقل من قرنين في أقصى جنوب الجزيرة وشمالها الغربي قد لا يعتبرها لهجات لذات اللسان لفرط تباينها! وقد ذهب الأستاذ "جواد علي" في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لكون اللغة التي كتب بها معظم الشعر الجاهلي ثم نزل بها القرآن الكريم كانت لهجة قبيلة "كندة" بالأساس، والتي كان ملوكها يرعون الأدب والأدباء، فصارت لهجتهم هي لهجة الأدب والشعر! وصارت اللهجة التي يتواصل بها أبناء القبائل المختلفة، وكان طبيعيا أن تتبناها قريش بحكم موقعها كمركز تجاري وديني في الجاهلية! واللغة العربية تصنف لغويا كأحد اللغات الآفرو-آسيوية، من الجذر "السامي الغربي" تحديدا، وترتبط بعلاقة نسب بالعديد من اللغات التي ظهرت قبلها زمنيا مثل الآرامية (بما فيها النبطية والآرامية الجديدة/ السوريانية) والأكادية، أما عن زمن ظهور العربية بلهجة القرآن الكريم التي نستخدمها اليوم، فأقدم نص لدينا هو لوح "النمارة" المنقوش في القرن الرابع بعد الميلاد! أي قبل الوحي الشريف بقرون ثلاث فقط! وقصة تكون اللغة العربية تشبه العديد من اللغات، خاصة في الثقافات الشفهية غير التدوينية، ويصعب تحديد عمر النشوء في مثل هذه الثقافات، لكنها قطعا أحدث ظهورا من الأكادية والنبطية والسوريانية وغيرها!

ومما سبق، يتبين لنا أن اللغة تابعة لحركة البشر وليست صانعة لها! وقصة تكون اللغة العربية ذاتها، تعطينا الانطباع ذاته! فهي قصة انتشار لهجة بعض القبائل والممالك على حساب لهجات أخرى وفق نفوذ تلك القبائل سياسيا وثقافيا ودينيا! ولكن العكس ليس صحيحا، فلم تتسود قبيلة لانتشار لغتها، ولم تتحقق وحدة سياسية في التاريخ تأسيسا على وحدة اللسان بين الشعوب!

(٥) من ميلة مقابلة، لم يؤثر تعدد الألسن على الوحدة السياسية لكندا أو سويسرا أو بلجيكا وغيرها العشرات من الدول متعددة الألسن والثقافات! لأن مصلحة تلك الشعوب اقتضت الوحدة رغم تباين اللسان

أسطورة برج بابل وتضخيم الدور التوحيدي للغة!

تقول أسطورة برج بابل التوراتية أن البشر سكنوا هذا البرج بعد الطوفان، وكانوا شعبا واحدا، ثم وقع اختلاف (تبلبل) ألسنتهم بأمر إلهي، لأن الله أراد لهم ألا يبقوا شعبا واحدا، فتفرقوا وانتشروا في الأرض! هذه القراءة الأسطورية التي تقلب المسار الحقيقي الذي وقع في التاريخ، فتجعل من اختلاف اللسان سببا لتفرع البشر لقبائل وحركتهم وتباعدهم إلى أمم وشعوب، وليس نتيجة لهذا التفرع والتفرق، لعلها تكون سببا جوهريا في تضخيم دور اللغة التوحيدي في العقل الجمعي للبشر، فلو كان هذا الفهم مقبولا منذ عشرين قرنا من الزمان قبل أن يفنده العلم، فهو لم يعد جائزا اليوم! وحدة اللسان مسوغ وحدوي يزيد من قابلية الشعوب للتوحد،ويعمق التواصل بينها، ولكنه لم يكن في يوم من أيام التاريخ الطوال مبررا دفع الشعوب نحو الوحدة، أو ركيزة ضمنت استمرارها!

الشعوب تتجه نحو الوحدة لجلب المصلحة ودفع الخطر المشترك، ثم تتواصل فيما بينها لتحقق العيش المشترك الأفضل، وإن اقتضت المصلحة أن تتحد الشعوب مع تباين اللغات فهي تتحد  وتجد صيغا بديلة للتواصل وتحقق العيش المشترك كذلك!

 

2016-08-29