ارشيف من :آراء وتحليلات

روسيا وتركيا: بين التطبيع والتحالف

 روسيا وتركيا: بين التطبيع والتحالف

  اللقاء بين أردوغان وبوتين لم يكن مفاجئاً، بل كان متوقعاً، خاصةً بعد تداعيات الانقلاب التركي الفاشل ومع ازدياد حالة الاضطرابات بين روسيا وتركيا خلال عقود، لن يكون أردوغان في وضع يسمح له بالابتعاد عن موسكو التي ستواصل توسيع نفوذها في منطقة الجوار المشترك بين البلدين.

في الوقت الراهن، تلتقي مصلحة تركيا وروسيا، وهما تحاولان تجاوز كابوس صراع امتد أربعة قرون تداخلت فيه السياسة والاقتصاد والدين. والأرجح أن دوافع عدة دفعت في اتجاه التقارب بين أنقرة وموسكو:

 أولا: متغير الغاز، الذي يمثل أحد أهم متغيرات معادلة العلاقة بين البلدين، إذ تلبي روسيا نحو 60 % من حاجات تركيا من الغاز. كما تبدو الأخيرة في حاجة إلى تلطيف العلاقة مع موسكو مع اقتراب نهاية اتفاقات توريد الغاز لتركيا بعد سبع سنوات، ما يتطلب مفاوضات جديدة وعسيرة على مستويات الحجم والمدة والسعر إذا ظلت العلاقة مضطربة.
ثانياً: انعطافة أنقرة في سياستها الإقليمية بعيداً عن الغرب، في ظل تصاعد انتقادات الاتحاد الأوروبي للإجراءات القمعية، عشية الانقلاب، وانتصار الدوافع الانتقامية لأردوغان على حساب العقل ضد قطاعات واسعة وتقزيم دور الجيش، ناهيك بحديث عن دور أميركي مفترض في الانقلاب، ثم مسألة الداعية الإسلامي غولن المتهم بتدبير الانقلاب ورفض الولايات المتحدة تسليمه إلى أنقرة.

بينما تنطلق موسكو في تقاربها مع أنقرة من اقتناع بأن محاولة الانقلاب شكلت ضربة لأردوغان سيكون من شأنها مزيد من انكفاء تركيا على الداخل لفترة ما، وتقليص تدخلها في الشؤون الإقليمية، خاصة في سوريا والعراق. وهذا يمثل فرصة لروسيا من أجل دفع أنقرة على إجراء مراجعة لتوجهاتها حيال الأزمة في سوريا. وقد تدفع موسكو باتجاه مشاركة أكبر لأنقرة في الحرب على "داعش" و"جبهة النصرة" والجماعات التي تصنفها إرهابية الى جانب الضغط على حكومة "العدالة والتنمية" بتقديم ضمانات بقطع الإمدادات عن المعارضة السورية.

 روسيا وتركيا: بين التطبيع والتحالف

روسيا وتركيا : بين التطبيع والتحالف


ولهذا جاء لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في مدينة سان بطرسبرغ مؤخراً، وهي القمة الأولى بين الزعيمين بعد حادثة إسقاط تركيا الطائرة الروسية، والزيارة الأولى لأردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز الماضي. وقد حظي اللقاء باهتمام إقليمي ودولي على اعتبار أن الملف السوري سيشكل أصعب اختبار أمام القمة بعد التطورات الأخيرة في حلب، إذ أن معركة حلب مفصلية ومستقبلها سيكون مرهوناً بالصفقة بين العدوين اللذين تحولا إلى صديقي الحاجة الموقتة. فوضع أردوغان غيّر المعادلة في سوريا، ذلك أنه سيضحي بسوريا لضمان سيطرته على تركيا، وهو جاهز للثأر من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية عبر البوابة الروسية. بمعنى، إن أردوغان جاهز لتقديم خدماته الانتقامية إلى بوتين، منها:
أولاً، قطع طرق الإمدادات إلى المعارضة السورية التي طالما رفضت أنقرة اعتبارها إرهابية، إلا أنها مضطرة اليوم لإعادة النظر بما يلبي المطالب الروسية.
ثانياً، الدخول كشريك ميداني في المحور الروسي  - الإيراني في معركة حلب ليتحول المحور من ثنائي إلى ثلاثي.
 ثالثاً، التفاهم على الرئيس بشار الأسد بدلا من اشتراط تنحيه كما كان الموقف التركي سابقاً.
رابعاً، التصعيد ضد الولايات المتحدة واحتمال وقف التعاون مع التحالف الذي تقوده ضد "داعش" في سوريا والعراق.
 خامساً، استخدام ورقة اللاجئين لإغراق أوروبا بالمشكلات الداخلية، لا سيما إذا تم فتح أبواب تركيا على أوروبا بلا تدقيق كامل بمن هو اللاجئ ومن هو الإرهابي.
فبعد الجو الإيجابي المؤقت الذي ساد في أثناء عملية التفاوض على "اتفاق اللاجئين" وبعده، تدهورت الأمور بسرعة، ولم يعد سرا هذا الجو المشحون من البغضاء والعداء وانعدام الثقة المتبادلة بين أوروبا وتركيا. وما كان يقال ويكال على الصعيد الشعبي بين الطرفين انتقل ليصبح علناً وعلى لسان المسؤولين هنا وهناك. بعدما اتهمت أنقرة بروكسل بالمماطلة في تنفيذ الجزء المتعلق بها من الاتفاق الخاص بإعفاء دخول المواطنين الأتراك إلى دول الاتحاد من سمة الدخول.
 
وازدادت العلاقة بين أنقرة وأوروبا تعقيداً بعد تسريب تقرير ألماني حكومي يتهم تركيا بأنها أصبحت "مركزاً للجماعات الإسلامية المتشددة"، وأن الرئيس أردوغان لديه "تقارب فكري" مع جماعة الإخوان المسلمين وجماعات المعارضة الإسلامية المسلحة في سوريا.
يضاف إله وصول اليمين المتشدد إلى السلطة وازدياد قوته في عدد من دول الاتحاد، الأمر الذي ادى في إذكاء نار الحقد التاريخي المكنون واستثارة القوميات والعصبيات الدينية. فقد صدحت تصريحات أوروبية من مثل "لا مكان في أوروبا لدولة لا نكهة أوروبية لها"، و"الفجوة الديمقراطية والاقتصادية والثقافية بيننا وبين  تركيا كبيرة جداً" و"على أوروبا ألا تخضع للابتزاز التركي"، و"أوروبا لا تريد تكرار تجربة العثمانيين معها"... إلخ.
في المقابل ردت انقرة: "منذ ثلاثة وخمسون عاماً وعدتنا أوروبا بالعضوية ولم ننجز إلا فصلاً واحداً من فصول الانضمام الخمسة والثلاثين، فيما بلد صغير كـ كرواتيا بدأ المفاوضات عام 2005، ووقع العضوية عام 2011، هل يظنون أننا سنستجدي العضوية منهم استجداء؟ إن لصبرنا حدودا. أوروبا لا تريد بلداً كبيراً مسلماً في عضويتها. من دون مواربة ورياء فليقلْها الأوروبيون إنهم لا يريدوننا لأننا مسلمون".
 
فما كان مضبوطاً قبل محاولة الانقلاب بجهود مضنية من قبل "بعض العقلاء" في الجانبين، انفلت من عقاله بعد ليلة 15 من تموز، لتسود لغة المعاداة التي وصل بعضها إلى إهانات وتجريح. فقد جاءت حملات الاعتقال والتطهير التي شنتها السلطات التركية لتعطي الأوروبيين مادة دسمة لتفريغ ما في صدورهم من كلام لم يستطيعوا قوله سابقاً "لا مكان لتركيا الديكتاتورية في أوروبا"، "على أوروبا أن تتخلى فوراً عن أي مفاوضات مع تركيا"، "ليس هناك أي أمل في انضمامها في العشرين سنة القادمة". ليرد مسؤولون أتراك "علينا أولا أن نتأكد من وجود اتحاد أوروبي بعد عشرين سنة"، و"المنافقون ظهروا على حقيقتهم".

ومع توقع فشل المحادثات حول تحرير سمة الدخول كاستكمال للاتفاق حول اللاجئين، وتوقع عودة تدفق اللاجئين السوريين إلى القارة العجوز من على شواطئ اليونان، تكون العلاقة بين أوروبا وتركيا قد أسقطت كل أقنعتها التجميلية.
كل هذا شكل دافعاً لأردوغان إلى التطبيع مع روسيا، انتقاماً من جيرانه الأوروبيين الذين خذلوه، خاصة عند حدوث الانقلاب الفاشل. في وقت صرحت مصادر دبلوماسية أن ثمة مبالغة في الحديث عن شراكة استراتيجية بين تركيا وروسيا تحل محل علاقة الأولى بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. فلن يكون الأمر بھذه السھولة ولا بھذه السرعة. فلا يمكن في ھذا اللقاء أن يسوي البلدان خلافاتھما التي لا تقتصر على سوريا فحسب، فھناك قضية القرم وقبرص والصراع بين أرمينيا وأذربيجان ومستقبل الأوضاع في آسيا الوسطى.

موسكو أعلنت صراحة أن مستقبل العلاقات مع أنقرة رهن بموقف الأخيرة من الأزمة في سوريا. فھل يُسلم أردوغان بمشروع روسيا في سوريا من دون أي ثمن؟ صحيح أن موسكو تربط تحسين العلاقات مع جارتھا الجنوبية بموقفھا من الأزمة السورية وسبل تسويتھا سياسياً، لكنھا لم تنتظر تحولا من ھذا النوع. ولكن لا يغيب عن بالھا أن تركيا كانت على الدوام ولا تزال مبدئياً ركناً من أركان "الناتو". وھي إلى اليوم تستضيف أجزاء من "الدرع الصاروخية" التي يعتبرون أن الحلف الأطلسي يقيمھا بھدف تطويق بلادھم. ولا يمكن الرئيس بوتين أن يفوت فرصة استجابة بعض طلبات أردوغان من أجل تعميق خلافات الرئيس التركي مع أوروبا والولايات المتحدة وزعزعة استراتيجية الحلف.
أردوغان، لم يكتف بالاندفاع إلى حضن موسكو، وإنما تابع اندفاعه نحو تل ابيب، فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت"  أن مسؤولاً تركياً رفيعاً، زار إسرائيل سراً مؤخراً، واجتمع بمسؤولين عن شركات إسرائيلية مختصة في مجال الطاقة والغاز، باحثاً إمكانية شراء الغاز الإسرائيلي ونقله إلى تركيا.
انسياب تركيا اقتصادياً باتجاه إسرائيل، ھو سمة مرحلة ما بعد المصالحة السياسية بين الجانبين، وأحد وجوه التعبير عنھا. كما أن تقاطر الوفود الاقتصادية التركية، السرية والعلنية، دال على الاندفاعة التركية نحو الشريك الإسرائيلي، لتعزيز العلاقات معه.
في النهاية، تركيا، كما الشرق الأوسط هي في مخاض عسير وسط تجاذبات وتغيير في المواقف للمحاور الإقليمية المتورطة في الأزمة السورية، فلا شيء ثابت في المواقف وأعداء السياسة، يصبحون بعد فترة أصدقاء الحاجة وفقاً لتغير قواعد اللعبة وتقاسم المصالح، فلا أحد منهم يريد أن يخسر، أو على الأقل، يريد أن يخرج منها بالتعادل وحفظ ماء الوجه، ولكن، على ماذا ستكون التسويات؟ وعلى حساب من؟ الأكيد أنها على حساب العرب الذين لم يتعلموا قراءة التاريخ جيدًا، والاستيقاظ من سباتهم!.

 

2016-08-30