ارشيف من :آراء وتحليلات
بعد ديلما روسيف: البرازيل أمام امتحانات مؤلمة!
بذلت ديلما روسيف كثيراً من الجهد في محاولة لإقناع مجلس الشيوخ البرازيلي ببراءتها من التهمة الموجهة إليها. واستعانت بالعديد من الحجج. في واحدة من تلك الحجج، ذكرتهم بانخراطها شخصياً في حرب العصابات ضد الحكم العسكري بين ستينات وثمانينات القرن الماضي.
لكن، وبدلاً من أن يكون إخلاص روسيف وتفانيها في خدمة بلدها وبلدهم شفيعا لها عندهم ، فإن هذه الحجة أثارت، فيما يبدو، حفيظة الأكثرية المعارضة في مجلس الشيوخ وعززت نوازعهم الثأرية: هم وأمثالهم من كبار الرأسماليين الذين يجنون الأرباح من كل وضع كارثي هم من كانوا يشكلون السند الأساس للحكم العسكري. ولا شك بأنهم يفركون الآن أيديهم فرحاً لأنهم يراهنون على الأوضاع المضطربة التي دخلت فيها البرازيل مع تنحية روسيف لأن تنحيتها تشكل فرصة ثمينة لعودة حكم العسكر من جديد، أو لما هو أدهى، كالحرب الأهلية.
نعم الحرب الأهلية. ألم تلجأ الحكومة، بهدف الحيلولة دون اندلاع أعمال عنف، إلى إقامة جدار معدني بارتفاع مترين وبطول ثلاثة كيلومترات بين مؤيدي روسيف ومعارضيها الذين احتشدوا في أحد شوارع ساو باولو، قسم منهم للاحتفال بتنحيتها والقسم الآخر لاستنكار هذه التنحية؟
بعد أربعة أشهر من الإجراءات القانونية وست عشرة ساعة متواصلة من التحقيقات التي خضعت لها أمام مجلس الشيوخ، أبعدت ديلما روسيف عن منصب الرئاسة وهي تجرجر "مرارة الإحساس بالظلم"، كما قالت. صحيح أنها ارتكبت مخالفة للدستور عندما نقلت أموالاً من موازنة إحدى الوزارات لتغطي عجزاً في وزارة أخرى، وصحيح أنها فعلت ذلك بهدف تقوية موقعها كمرشحة للرئاسة عام 2014، لكنها لم تفعل ذلك لأنها كانت شغوفة بالبقاء في الحكم. بل لإدراكها التام بأن خروجها من الحكم سيعني، لا محالة، وأد عملية الإصلاح التي بدأها سلفها إينياسيو لولا دو سيلفا والتي وصلت في عهدها إلى حد إطلاق ملاحقات قضائية بحق العشرات من رؤوس الفساد والارتباط بمخططات واشنطن الساعية إلى إعادة تحويل أميركا اللاتينية إلى حديقة خلفية للمصالح الأميركية.
البرازيل امام تحديات مؤلمة
ثم إن هذه المخالفة تظل عديمة الأهمية بالمقارنة مع مخالفات معارضيها وفي طليعتهم "الخائن"، حليفها السابق، ميشال تامر، رئيس الجمهورية الجديد، حتى 2018، والذي بات من المؤكد أنه تقاضى، مع عشرين سياسياً من أولئك الذين أصروا على ملاحقة روسيف، أموالاً من صفقات الفساد التي كانت روسيف قد طلبت إجراء تحقيقات حولها منذ بداية فترة حكمها الثانية عام 2014.
كما بات من المؤكد أن قطع الطريق على الاستمرار بإجراء تلك التحقيقات التي كانت ستشكل ضربة قوية للفساد، بعد ضربات شديدة أخرى تم توجيهها في ظل حكم روسيف وسلفها إيناسيو لولا دو سيلفا، هو واحد من الدوافع التي جعلت "الانقلابيين" يقومون بتدبير مؤامرتهم التي أفضت إلى عزل روسيف.
هناك بالطبع دوافع أخرى للحقد على روسيف من قبل دوائر الهيمنة. منها مواقفها الثابتة في دعم القضية الفلسطينية. وفي هذا المجال، كانت روسيف الوحيدة بين زعماء العالم التي ذرفت دموعها حزناً على أطفال غزة الذين قتلهم القصف الإسرائيلي.
ومنها هلع الولايات المتحدة من التقدم المذهل الذي حققته البرازيل منذ فوز حزب العمال في الانتخابات التي سمحت للرئيس لولا دو سيلفا بالوصول إلى منصب الرئاسة. فخلال الخمسة عشر عاماً المنصرمة، قفزت البرازيل من بلد ثانوي إلى قوة عظمى وأساسية في مجموعة بريكس، ومن بلد يرزح تحت مديونية ضخمة إلى بلد يحتل الموقع الاقتصادي الأول في أميركا اللاتينية، والثاني في القارة الأميركية، بعد الولايات المتحدة مباشرة، والسادس على المستوى الدولي.
والإشارة مهمة جداً في هذا المجال إلى أن الهوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء في البرازيل قد تم ردمها إلى حد بعيد في ظل حكم لولا و روسيف، وهذا أمر من الصعوبة بمكان أن يقدر أي بلد على تحقيقه في ظل الأوضاع السائدة في العالم المعاصر.
كما أن الإشارة مهمة أيضاً إلى الدور الذي لعبته السعودية، إرضاء لواشنطن وتل أبيب، في العمل على إسقاط روسيف. فالحقيقة أن إقدام آل سعود على كسر أسعار النفط قد شكل ضربة مؤلمة للاقتصاد البرازيلي، ما أدى إلى توترات اجتماعية نجحت واشنطن والمعارضة الداخلية في استغلالها عبر تأليب شرائح واسعة من الشارع البرازيلي.
مراقبون عديدون يرون أن ميشال تامر مرشح لعدم إكمال ولايته الرئاسية التي تنتهي على كل حال بعد سنتين وأربعة أشهر. من جهة بسبب ملاحقته لتورطه في صفقات فساد كبرى. ومن جهة ثانية، لأن دوائر المال والأعمال والفساد لن تتوانى منذ الآن عن السطو على الإصلاحات، ولأن الشارع البرازيلي لن يتخلى عن المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي حققها خلال فترة حكم العمال.
من هنا الخوف على مستقبل البرازيل من فترة اضطراب قد يطول أمدها، اللهم إلا إذا تم تدارك الوضع من قبل البرازيليين، وأعيد انتخاب دو سيلفا أو روسيف عام 2018 أو قبل ذلك في انتخابات مبكرة، وبعد تعديلات دستورية ضرورية.