ارشيف من :آراء وتحليلات
المفهوم الإبراهيمي للحج: اول اعلان لحقوق الانسان
د.حسين رحال
يشكل عيد الأضحى المبارك تتويجاً لأعمال الحج الأكبر وهو مناسبة وذكرى لأول إعلان لحقوق الإنسان في التاريخ البشري، وفي الوقت نفسه هو أول ميثاق تنويري قدمته الأديان التوحيدية وأبوها المشترك ابراهيم الخليل (ع) كالتزام ديني لصون حياة وكرامة البشر عامة.
كان البشر في ذاك الزمان على مقربة من عهد النبي ابراهيم يقدمون ابناءهم قرابين بشرية. وكانوا يذبحون في المعابد الوثنية أجمل الفتيات والبعض كان يقدم الأطفال قرابين بشرية في مشهدية احتفالية كبيرة، محورها الدماء الحمراء الانسانية المسفوكة جهاراً باسم العقيدة الدينية السائدة.
وفي الحروب كان الذبح سيد الموقف، شعوب بكاملها ذبحت وأبيدت في حروب او بعد خسارتها حروب. القبائل اليهودية كانت تعرف هذه الثقافة الشائعة وتمارس بعضها، والقبائل العربية أدركت شيئاً من ذلك زمن الجاهلية، ولعل عادة وأد الفتيات وهن على قيد الحياة، بحجة حماية الشرف واحدة من تلك البقايا الوثنية في الثقافة العربية.
مركزية دور النبي ابراهيم ورمزيته في السياق الديني التوحيدي، منذ الحنيفية مروراً باليهودية والمسيحية وصولاً الى الإسلام، تعطي لهذا الحدث أهمية بالغة؛ إن حادثة الافتداء التي افتدى بها الله اسماعيل بن ابراهيم بالكبش (الخروف) هي تعبير عن اعلان عهد فكري وديني توحيدي جديد يمنع فيه ذبح البشر تحت أي عنوان مقدس أو غير مقدس.
إن قصة ابراهيم هذه مفعمة بالطقوس والرمزيات، اشخاصاً وأزمنة وأمكنة ورواية، بما يجعلها راسخةً في الوعي البشري وفي العقيدة الدينية، لأنها اعلان مفصلي وحاسم عن مرحلة جديدة في التاريخ البشري: لا عودة الى الدرك الوثني أي الذبح والقتل لأن الانسان وحياته قيمة إلهية مقدسة والحفاظ على حياة البشر هو المقدس وليس ذبحهم وسفك دمائهم.
لقد صور القرآن الكريم هذه القصة بشكل مفصل ومؤثر واستشهد بها في أكثر من موضع، لجلالة ما تحمله من قيم انسانية، بل حولها الى فرض ديني ملزِم لكل مسلم حيث تستعاد الواقعة كل عام؛ بدل ذبح الانسان على الطريقة الوثنية افتدوه بكبش وتعلموا قداسة الروح الانسانية واحترامها.
لقد ابدى القرآن والإسلام أهمية لهذا الحدث لتأكيد معناه العظيم ويحلو للانثروبولوجيين ان يسموا ذلك أسطرة، من أسطورة، (أي نزع الحدث من تاريخيته الزمنية وجعله دائم الحياة والاستمرارية في الزمان والمكان). لكننا وعلى خلاف ذلك رجعنا القهقرى ثلاثة آلاف سنة الى الوراء، الى ما قبل الفترة الإبراهيمية، حيث القتل والذبح عادا الى الوجود باسم المقدس. باسم الصليب في الحروب الصليبية (وباسم الصليب المشطور ذبح الآلاف في الحرب الأهلية اللبنانية على الهوية على الحواجز الرهيبة، أو في أحياء آمنة ليس أخفاها مخيما صبرا وشاتيلا حيث ذبح آلاف اللبنانيين والفلسطينيين برعاية إسرائيلية مباشرة. تماماً مثلما ذُبح المسيحيون في الجبل بدعاوى تاريخية ودينية. وباسم الدعاوى التوراتية يذبح ويحرق علناً الشعب الفلسطيني على يد الصهاينة وبرعاية المشروع الغربي.
اول اعلان لحقوق الانسان
الأسوأ من كل ذلك انه باسم التوحيد الاسلامي والإبراهيمي يذبح الآن البشر أفراداً وجماعات بعشرات الآلاف، وباسم القرآن الذي هو منهم براء، يستخدم الكتاب المقدس لغير الغرض الذي من اجله نزل، لتبرير ذبح البشر.
لقد أعادتنا المدرسة السعودية الوهابية الى العهد الوثني الجاهلي، الى الذبح وطقوسه الرهيبة؛ مشهدية القرابين البشرية مع تقنيات تصوير حديثة. كناية عن شراكة الراعي الأميركي الذي في حضنه نشأ كل هذا الفكر الرهيب، وما زال يحميه عسكرياً وسياسياً في معقله الأساس أي في المراكز الدينية الوهابية في داخل المملكة السعودية، حيث جنود المارينز وصواريخ الباتريوت وطائرات الأواكس والمصارف الكبرى الأميركية والفيتو الأميركي والبريطاني والفرنسي في خدمة وحماية منظومة التكفير والإفتاء بالقتل وتمويل القتل والذبح الرابضة في حضن أمراء ووزارات آل سعود.
الفرع الداعشي للوهابية السعودية هو الأكثر دموية لأنه في طور بناء السلطة، تماماً كما فعل عبد العزيز في طور صعوده الى السلطة وكما فعل آباؤه في الدولة السعودية الأولى وفي الثانية.
العودة الى الوثنية ـ ما قبل الإبراهيمية ـ هو جوهر ما يفعله وهابيو داعش (وكذلك الفرع الأصلي الرسمي السعودي للوهابية بما يفعله مع الشعب اليمني والشعب البحريني وغيرهما) بالذبح والترويع وانتهاك حقوق البشر سواء ضد الأيزيديين أو المسيحيين أو الشيعة او السنة، كلها ممارسات تنم عن الانقلاب على الإعلان التوحيدي الاول وعن الرؤية القرآنية الناجمة عنه؛ عودة الى العهود السحيقة لبربرية ما قبل التاريخ.
الحج الحقيقي ثورة على الذبح لحماية الكرامة الانسانية وهو أعظم سياسة إنسانية ضد الظلم والقهر والقتل هو ثورة على المقدس المزيف لوثنيي العصر ،الدواعش الوهابيين المتوحشين في العراق والشام وفي الجزيرة العربية، وإلا فأي حج بغير ذلك هو خيانة للنبي ابراهيم وللقرآن الكريم.