ارشيف من :نقاط على الحروف

الأكثر تداولًا: أزمة ثقافة أم أزمة صحافة

 الأكثر تداولًا: أزمة ثقافة أم أزمة صحافة

"... وإن بدا اليوم ممكنا أن نرفض التعامل مع الإنترنت، فإنه لن يكون كذلك بعد سنوات"! منذ العام 1997، حسم المؤرخ الأمريكي رونالد ستيل الجدل في قضية شيوع وتأثير الانترنت في البشرية جمعاء. واليوم، لا جدال في هذا الموضوع! أحد لا يمكنه أن يحيا بعيدا عن الإنترنت، ولنكن أكثر دقة عن مواقع التواصل الإجتماعي! واقع تنظر إليه المؤسسات الإعلامية التقليدية " mainstream media" بقلق وحذر عن مصيرها في المستقبل. إذ تؤكد مراكز الإحصاءات في دراساتها عن تراجع ملحوظ في نسبة مشاهدة التلفاز مقابل تزايد مطرد في أعداد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعيّ. حقيقة دفعت بالمؤسسات الإعلامية إلى اعتماد سياسة "التلفزيون الاجتماعي". مصطلح يشير الى دمج التلفاز مع مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل يتيح للمشاهد أن يتابع البرامج التلفزيونية على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يعلق على القضايا المثارة إعلاميا على حسابات المؤسسة.  لم تكتف الأخيرة بهذه الخطوة، اذ بعضها أدرج فقرة أخبار مواقع التواصل الاجتماعي في نشرة الأخبار، أكثر البرامج جمودا وجدية، كما هي الحال في قناتي الجديد، والـ MTV.  والبعض الآخر، خصص برنامجا في نشر أهم ما تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي كقناة الـ NBN.

انتقاء المؤسسة الإعلامية المحلية للأخبار المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي إشكالية بحدّ ذاتها، ودونها الكثير من التحديات، تبدأ من تحديد الجمهور المستهدف، ولا تنتهي عند اعتماد معايير واضحة تستند اليها في عملية الانتقاء. فماذا تقدم المؤسسات الاعلاميّة اللبنانيّة للجمهور اللّبناني من أخبار تتداول عالميّا؟ وهل أخفقت في تجربتها أم استطاعت اجتياز الامتحان في تطويع منافسها الصّعب بذكاء؟

 الأكثر تداولًا: أزمة ثقافة أم أزمة صحافة

أزمة ثقافة ام أزمة صحافة؟

لكل مؤسسة إعلامية لبنانية جمهورها الخاص الذي يتميز بمستوى ثقافي وإجتماعي وإيديولوجي محدّد. بالتالي، كل الرسائل الاعلامية الصادرة عنها تصاغ بشكل يتناسب مع طبيعة الجمهور. وهذا ما يشدّد عليه، المشهور بتحليل الخطابات العالم باتريك شارودو، إذ يعتبر أن الرسالة الإعلامية لا تأخذ معناها الحقيقي، إلا اذا تحقق التفاعل بين المرسل اليه والسياق الذي وضعت فيه. وهذا التفاعل يزيد كلما تضمنت الرسالة الاعلامية لغة شبيهة بالتي يعتمدها الجمهور، بكل ما تتضمّنه من رموز ودلالات. بمعنى آخر، تحقيق الهدف من الرسالة الاعلامية قائم على براعة القائم بالاتصال( المرسل) بصياغة رسالة يتقبلها الجمهور لما تتضمنه من مضمون يحاكي واقعه، ومصاغة بلغة يتشارك رموزها ودلالاتها.

سقطت هذه القاعدة الإعلاميّة في فقرة trends  على قناة الجديد. لا هوية محدّدة للجمهور المستهدف، ولا رسالة واضحة الرموز والاهداف. إذ تتضمن الفقرة ذاتها أخبارا عالمية متداولة فقط بالنطاق الغربي، وأخرى محلية ترتبط بتفاصيل الواقع اللبناني. الى جانب ذلك، أخبار تفيد "المشاهدين" بآخر التطبيقات والتحديثات المستجدة على مواقع التواصل الإجتماعي، بلغة علمية تقنية بحتة!

  "كوكتيل" الأخبار ما هو إلا انعكاس لهويّة منتجي هذه الأخبار الذين ينتمون الى ثقافات وأديان مختلفة، ويتفاوتون بالاهتمامات والاحتياجات. ولكن ماذا عن الجمهور المستهدف؟  وحده المشاهد خاسر في هذه الفقرة. لا معلومات مهمة وجديدة أُضيفت الى مخزونه الفكري الثقافي. بالنسبة الى الأخبار المحلية، المشاهد نفسه قد يكون واحدا من الأشخاص الذين شاركوا في تداول هذه الأخبار، بالتالي لم تأت الفقرة له بأيِّ جديد. أما فيما يتعلق بالأخبار العالمية، ما يتم تداوله لا يصب في اهتماماته. فمَ الذي يربط المشاهد اللبناني بنجم أمريكي من الصف الثاني لم يكن يحمل نقودا، فدفع عنه شخص آخر في السوبر ماركت!

ما الفائدة التي حصّلها من هذا الخبر!  الثغرة الكبيرة التي وقع فيها معدّو فقرة الـ trends  قد تخطتها قناة الMTV ، ليس لبراعتها في تحديد الجمهور. إنما لأن معدي الفقرة بل العاملين في القناة  يدّعون بأن توجهاتهم عالمية، لا يأبهون في التفاصيل المحلية. تشكل فقرة connected امتدادا لجوّ القناة التي يحب البعض تسميتها بالQuality: اللغة ذاتها،  عناوين الاخبار بالإنكليزي، الأخبار تتعلق بالـ  high class ، وفيديوهات تعكس "يوتوبيا الرقي" التي "تحلم" القناة ببلوغها.
 
ما يميّز الجديد عن الMTV ، أن الأولى تحاول إرضاء أكبر عدد من الجماهير على اختلاف مستوياتهم الثقافية والدينية والايديولوجية. فمثلا، نشرت الجديد خبرا عن شاب لبناني استطاع أن يقرصن 500 موقع اسرائيلي، مختتمة الخبر بتحية لكل شاب يقاوم العدو بكل الاشكال، وفي حلقة أخرى، نشرت فيديو لروسيات شبه عاريات يقمن بحملة للحد من حوادث السير!

أما الMTV، ، فقد تعمّدت انتقاء الاخبار وفقا لأجندتهما الخاصة، وانسجاما مع هوية الجمهور.
   
أما القاعدة الثانية فيما يتعلق بنشر الرسالة الاعلامية، فتقول إن انتقاء الاخبار يخضع لمجموعة من معايير النشر. وتتركز هذه المعايير بالغرابة، والنجومية، والدراماتيكية، الجرائم، الاثارة والفائدة والخدمة للجمهور. يبدو أن معدي فقرة trends  قد حفظوا هذه القاعدة جيدا إلا أنهم استبدلوا  الخدمة وفائدة الجمهور بمعيار آخر وهو "الأكثر تداولا". عنوان الفقرة حكم على المعدّين اختيار الأخبار الأكثر تداولا، مع الحرص على أن تتضمن كثيرا من الإثارة. فالجديد ومعيار الإثارة صولات وجولات لن تنتهي!

تنشر الاخبار المثيرة وتصبح من بعدها هي الخبر المثير للجدل! أبو السن، مراهق سعودي "غير جميل" حصد الملايين من نسبة المشاهدة لفيديو كان يتحدث فيه مع كريستينا ذات الوجه الجميل بالصوت والصورة. لأنه مثير والأكثر تداولا، عرض في فقرة trends للمرة الأولى. والمفاجأة، أن القناة أعادت الحديث عن ابو السن ولكن هذه المرة ليس لفيديو يتحدث به عن كريستينا إنما لفيديو يشكر فيه مقدمة الفقرة، مغازلا "جمالها الكريستياني".
شكر أبو السن مقدمة الجديد، ولكن كم من مشاهد عاتبها لرداءة الأخبار وسطحيتها التي تعرضها تحت مسمى الأكثر تداولا؟! تعترف إحدى المقدمات خلال محادثة معها على مواقع التواصل الإجتماعي حيث هي تنشط، ان الفيديو الذي يعود بالفائدة الى الجمهور ولم يحظ بنسبة مشاهدة عالية فهو غير قابل للعرض! اذا، هل يعني هذا ان الفيديو اذا كان مضراً بالجمهور وكان اكثر تداولا يمكن أن يعرض؟ ! طبعا نعم، وهذا ما حصل عند عرض المقدمة فيديو لشابتين تدعوان الرجال للتحرش بهما دون اي رادع اخلاقي!!

أخفقت المؤسسات الإعلامية إذًا في احتواء منافسها الصعب " مواقع التواصل الإجتماعي". كما أن منافستها، ربما خليفتها مستقبلا، جرّتها الى مستنقع نشر اللاثقافة والمحتويات البالية . هل هي أزمة ثقافة تسود العالم، جعلتهم ينتجون أخبارًا وفيديوهات غير ذات قيمة ثقافية؟ أم إنها أزمة صحافة تلهث نحو الإثارة لتحقيق أكبر نسبة مشاهدة؟
وأخيرا، تبقى مسألة لا بدّ من الإشارة اليها، في ظل عصر الإعلام الجديد وفورة مواقع التواصل الاجتماعي، يفرض على الاعلام التقليدي مهمة أكثر رقيّا وأكثر مسؤولية. مهمة تكمن في التحقق من محتوى مواقع التواصل الاجتماعي الذي تتفشّى فيها الأكاذيب والأضاليل. ولا شكّ إنها مهمة ترفع الاعلام القديم من المستنقع الذي وضع نفسه فيه لتنقله الى مستوى يرتقي بالجمهور " العاوز" أخبار مهمة وذات فائدة.

2016-09-15