ارشيف من :آراء وتحليلات

تفوُّق الدبلوماسية الروسية على الأميركية في الشرق الأوسط

تفوُّق الدبلوماسية الروسية على الأميركية في الشرق الأوسط

 بمعزل عن المفاهيم المفوّتة للحرب الباردة بين المعسكرين السابقين، تشهد الساحة الدولية عامة، ومنطقة الشرق الاوسط خاصة، سباقا محموما بين الدبلوماسيتين الاميركية والروسية.

الصحافة الاميركية عن الدبلوماسية الروسية

وقد نشرت مؤخرا المجلة الاميركية المتخصصة بالشؤون الجيوستراتيجية The National Interest مقالًا تؤكد فيه ان الدبلوماسية الروسية اثبتت تفوقها على الدبلوماسية الاميركية، وحشرتها في وضعية "كش ملك" في الشرق الاوسط. وحسب رأي كاتب المقال فإن نجاح الدبلوماسية الروسية يعود الى قدرتها على بناء التحالفات اكثر من  قدرتها على استخدام القوة العسكرية. وتشير المجلة ان روسيا تقيم الاتصالات مع الجميع، بصرف النظر عن الخلافات السابقة. وعليه فإنها تقيم الاتصالات مع ايران و"اسرائيل" وتركيا في الوقت ذاته. ولاحظت المجلة ان طائرات القوات الجوية الفضائية الروسية استخدمت مطارا ايرانيا دون ان يؤدي ذلك الى اقامة حلف عسكري بين البلدين.

المحللون الاستراتيجيون الروس عن الدبلوماسية الاميركية

ويعلق على ذلك بوريس دولغوف (الباحث العلمي المعاون في مركز الابحاث الشرقية في اكاديمية العلوم الروسية) بالقول: اننا لا يمكن الا ان نتفق مع كثير مما جاء في مقالة The National Interest. فالاميركيون غالبا ما يلجأون الى استخدام القوة الفظة، والابتزاز والوعود الخلبية. وهذا بالطبع قلَّما يعجب الكثير من الدول. واذا كانت تلك الدول تقف الى جانب واشنطن، فهو بسبب الخوف، وليس انطلاقا من مصالحها الخاصة. هذا بالاضافة الى ان سياسة الولايات المتحدة الاميركية تتقلب باستمرار. وحتى اشد المؤيدين "للديمقراطية" الاميركية، لا يمكن ان يكون متأكدا انه لن يوصم غدا بالدكتاتورية.

اما روسيا فهي على العكس تماما، تنتهج سياسة ثابتة. وهي لا تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الاخرى، وتقترح التعاون مع جميع البلدان على قاعدة المنفعة المتبادلة.

ويتابع بوريس دولغوف قائلا: من الصعب القول ان روسيا تتحدى الولايات المتحدة. لا شك ان لبلادنا مصالحها الخاصة في الشرق الادنى. وبالاخص فيما يتعلق بالنزاع الدائر في سوريا. واننا نقيم العلاقات مع  تركيا التي لم تكن تقليديا حليفة لنا. كما لنا علاقات طبيعية مع ايران، التي منها انطلقت طائراتنا الاستراتيجية الجوية الفضائية لقصف الارهابيين في سوريا.

ويضيف: ولكننا لا يمكن ان نتفق مع المجلة الاميركية بأننا نقيم الاتصالات مع اي كان، بصرف النظر عن اي شيء.

ونحن في الشرق الادنى نضع نصب أعيننا الكفاح ضد تنظيم "داعش" الذي يمثل خطرا على أمننا القومي. وهناك آلاف الاشخاص من البلدان السوفياتية السابقة ينضوون وفي صفوف الراديكاليين. وفي حال عودتهم فسيكون الوضع سيئا للغاية. ومن مصلحة روسيا مكافحة "داعش" وعدم تمكينها من التحرك نحو منطقة اسيا الوسطى وشمال القوقاز.
وسوريا والعراق وايران هي الان حليفتنا في مجابهة "الاسلامويين الراديكاليين". وقد تشكَّل "محور" يدافع عن الحدود البعيدة لروسيا. ولذلك يوجد لدينا توجه مهم للتعاون مع هذه البلدان، كما أن هناك طبعا مصالح اقتصادية. والاميركيون ايضا يتصرفون على ضوء مصالحهم دون أن يقطعوا علاقاتهم مع الراديكاليين "الاسلامويين"، واذا اجرينا حساب "تسجيل نقاط" سوف نحصل على نتيجة متعادلة.

ان دبلوماسيتنا من حيث المبدأ لا تنطلق من حسابات "الربح" و"الخسارة". هناك قضايا واهداف محددة. وهناك اهداف بعيدة المدى. وقضيتنا الرئيسية هي ضمان امننا القومي، ومنع الارهابيين في سوريا من المجيء الينا.

تفوُّق الدبلوماسية الروسية على الأميركية في الشرق الأوسط

تفوق الدبلوماسية الروسية

ملاحظات استراتيجية اساسية

وانطلاقا مما تقوله المجلة الاميركية The National Interest، وتعليقات المحللين الاستراتيجيين الروس حولها، لا بد من ايراد الملاحظات التالية:

ـ1ـ بعد الفشل النسبي للعدوان الثلاثي على مصر، او ما يسمى "حرب السويس" سنة 1956، ومع بدايات اندلاع الثورة الجزائرية، طرح الرئيس الاميركي الاسبق الجنرال دوايت ايزنهاور نظرية "ملء الفراغ"، اي إحلال النفوذ الاميركي محل النفوذ البريطاني والفرنسي الآخذ في الانهيار في منطقة الشرق الاوسط. واذا ألقينا حتى نظرة خاطفة على تاريخ تلك المرحلة نجد ان عملية الاستبدال الاميركي انما تمت على حساب أمن ومصالح شعوب المنطقة وإسالة الدماء وترسيخ الدكتاتوريات فيها ومنها دكتاتورية البعث وصدام حسين ذاته في العراق. وليس من الصدفة ان "الصداميين العراقيين" قد انقلبوا "بسحر ساحر" الى "دواعش".  

2ـ وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، والهزيمة الساحقة لنظام صدام حسين بعد مغامرته الجنونية في الكويت، اخذت اميركا تستأثر استئثارا شبه كامل او حتى كاملا بالنفوذ في منطقة الشرق الاوسط بأسرها، وطرح الرئيس الاسبق جورج بوش الابن شعار اعادة رسم خريطة "الشرق الاوسط الكبير"، وطرحت وزيرة خارجيته الجذابة غونداليزا رايس شعار "الفوضى البناءة" لتحقيق هذا الهدف.

ـ3ـ "استغلت" اميركا ما يسمى "الربيع العربي"، كخطوة "ديمقراطية" ضبابية نحو تحقيق اعادة رسم خريطة الشرق الاوسط على القياسات الاميركية.

ـ4ـ واثبتت جميع الوقائع انه، وبمعزل عن اي تدخل روسي، فإن الدبلوماسية ـ والاستراتيجية الاميركية برمتها، فشلت فشلا ذريعا في الشرق الاوسط كله، بل في الشرق كله، من مالي ونيجيريا حتى كوريا الشمالية الجائعة ذاتها، التي اصبحت صواريخها قريبة وبعيدة المدى وقنابلها النووية، "الوطنية" او "المستعارة" سرا من الصين او ربما روسيا، تمثل كابوسا مرعبا للبيت الابيض والبنتاغون وطبعا السي آي إيه وسيؤول وطوكيو وتايبه و"بلا زغرة" اسرائيل.

ـ6ـ ان "الديمقراطية" الشكلية التي تتاجر وتتستر بها الدبلوماسية الاميركية (ديمقراطية صندوق الاقتراع) جاءت بـ"الاخوان المسلمين" و"العثمانيين الجدد" الى السلطة في تونس ومصر وتركيا. وذلك بالتزامن مع الهجمة الشرسة لـ"داعش" واخواتها (المدعومة من اميركا والسعودية ودول الخليج) في العراق وسوريا وليبيا. وشكل ذلك تهديدا بنشوء امبراطورية (بخلافة او بدون خلافة) عثمانية ـ سنية جديدة، وبنشوب حرب قارية طاحنة سنية ـ شيعية، ووقوع حروب ومذابح ابادة ضد جميع مسيحيي الشرق العربي والاكراد والارمن واليونانيين والصربيين والمقدونيين وبقية المسيحيين الالبان والبلغار، والتحرش المكثف بروسيا، ودفع موجات من ملايين اللاجئين (يختبئ ضمنهم عشرات الاف الاسلامويين الراديكاليين) نحو اوروبا واميركا وكندا واوستراليا. مما يحمل في طياته خطر نشوب حرب عالمية جديدة.
ـ7ـ لو استمر حكم "الاخوان المسلمين" في مصر لأدى ذلك الى نشوب حرب اهلية اسلاموية ـ قبطية في مصر، وتقسيم مصر وانشاء دولة مسيحية على حساب ذبح 2 ـ 3 ملايين مسيحي. وان خطر الحرب الاهلية المصرية لا يزال قائما الى الان بوجود الحركات الاسلاموية الارهابية.  
ـ8ـ ان عدم ايجاد حلول للقضية العادلة للشعب الكردي الشقيق بالتفاهم والتعاون بينه وبين جميع القوى التحررية التي يتواجد فيها الاكراد، واعتبار فصل شمال العراق بالدعم الاميركي والاسرائيلي نموذجا لـ"تحرير" الاكراد،  سيؤسس لحروب جديدة في العراق والمنطقة وليس لحل المشكلة الكردية.

ـ9ـ ان حرب الابادة التي شنتها اسرائيل ضد لبنان سنة 2006 بهدف القضاء التام على حزب الله، والدعم غير المحدود الذي تقدمه اميركا لاسرائيل، لم يمنعا من ان يتحول حزب الله الى قوة استراتيجية اقليمية رئيسية، وهو ما ظهر بوضوح في مشاركته الحاسمة في الحرب ضد مشروع "الدولة الداعشية" الذي كانت ترعاه اميركا وحلفاؤها في سوريا. وقد نجح حزب الله في ايجاد معادلة "توازن رعب" مع اسرائيل، هي التي تحمي لبنان من العدوان الاسرائيلي حتى الان. كما وقف سدا منيعا بوجه تهديد "الوحدة الوطنية" (بالمعنى الطائفي) في لبنان.

ـ10ـ بالرغم من الاستئثار الاميركي بدور الراعي شبه الوحيد للمفاوضات "السلمية" التي لا تنتهي بين السلطة الفلسطينية واسرائيل، والتستير على نجاح الموساد في اغتيال الرئيس الشهيد ياسر عرفات (وربما المشاركة في تنظيم الاغتيال)، من اجل ارهاب وتطويع جميع رجالات السلطة الفلسطينية، فإن الادارة الاميركية فشلت الى الآن في اتخاذ موقف واضح من دعم او معارضة خطة نتنياهو لاعلان اسرائيل كدولة يهودية،  ليس لانها ـ اي اميركا ـ لا تريد ذلك، بل لان الاعتراف باسرائيل كدولة يهودية سيجر الى الاعتراف بالدولة الفلسطينية المحتملة بوصفها دولة اسلامية، بكل ما ينشأ عن ذلك من مشكلات جديدة ديموغرافية وسياسية وعقائدية ـ دينية، اقليميا ودوليا، ولا سيما مع العالم المسيحي بأسره.  

اميركا "شجعت" روسيا على التدخل المكثف

هذه بعض حلقات سلسلة فشل الدبلوماسية والجيوستراتيجية الاميركية في العقود الاخيرة في منطقة الشرق الاوسط، قبل التدخل العسكري الجوي الروسي في سوريا، وبمعزل عن النشاط الدبلوماسي الروسي. ومن وجهة نظر معينة يمكن القول ان الدبلوماسية الاميركية هي التي "أغرت" روسيا بأن "تطحش" في المنطقة، وان الدبلوماسية الروسية، التي تحرص على اشراك اميركا في جميع مبادراتها، بهدف ايجاد اجماع دولي لانجاح تلك المبادرات، انما تلعب موضوعيا دورا مقصودا او غير مقصود هو انقاذ ماء وجه اميركا ذاتها، ووجه حلفائها العرب وغير العرب من مزيد من الفشل المزري.

وتبقى ملاحظة اخيرة لا بد من ذكرها وهي: ان القاذفات الروسية التي انطلقت من مطار همدان الايراني في 16 اب الماضي و"كسرت ظهر" المنظمتين الارهابيتين "داعش" و"النصرة" في سوريا، هي طائرات (VKS) الاستراتيجية، اي "طائرات جوية ـ فضائية" متخصصة بحمل القنابل النووية والطيران في المدار الفضائي على مستوى الاقمار الاصطناعية، اي الارتفاع اكثر من 30 كلم، وهي قادرة على توجيه ضرباتها عن بعد 5700 كلم بعيدا عن الهدف، واذا كانت واحدتها تحمل 10 "قنابل ذكية" فهذا يعني انها تحمل 10 قنابل نووية كل قنبلة تتجه الى هدف مختلف، وسرعة هذه الطائرات هي اكثر من ضعفي سرعة الصوت. وقيام هذه الطائرات بالمهمة التي قامت بها في سوريا انما كان الهدف الرئيس منه يتمثل في توجيه "رسالة خاصة" الى تركيا (عضو الناتو) واسرائيل وغيرها من بلدان المنطقة التي توجد على اراضيها قواعد واساطيل اميركية. وهذا يعني انه عند الضرورة فإن البلدان والبحور التي توجد فيها القواعد والاساطيل الاميركية هي مهددة بانفجارين نوويين: انفجار المقذوفات الروسية، وانفجار المخزونات الاميركية.

وعلى الباغي تدور الدوائر!

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب لبناني مستقل

 

2016-09-15