ارشيف من :آراء وتحليلات
قراءة عروبية متجددة (٤)؛ الدولة القومية والدولة القُطرية
نشأت الأفكار القومية العربية المعاصرة في ظروف بالغة التعقيد! فقد ظهرت في طور انتقال الشرق العربي من الاحتلال العثماني إلى الاستعمار الغربي! وظهرت بمقابل دعاوى "التتريك" التي سبقت وصاحبت تأسيس جمعية "الاتحاد والترقي" في تركيا في ١٩٠٦م، وترسخت بوصولها للسلطة، وكذلك بمقابل دعاوى التغريب باسم الحداثة التي عادت بها بعض النخب التي تلقت تعليما عاليا بأوروبا! في هذا السياق أسس اللبناني "نجيب عازوري" عصبة الوطن العربي في ١٩٠٤م، ونشر كتابه المؤسس "يقظة الأمة العربية" عام ١٩٠٧م، وفي هذا السياق ايضا عقد المؤتمر العربي الأول في باريس يونيو/حزيران ١٩١٣م بقيادة مجموعة من الطلاب القوميين الذين يدرسون في باريس، والذين أسسوا جمعية "العربية الفتاة" قبل ذلك في ١٩٠٩م، إعلانا لرفضهم للهيمنة التركية من جانب، ولفكرة الاستجارة من رمضاء الترك بنار الغرب! (وإن كانت الثورة العربية الكبرى وهي الثمرة الأولى لتلك الأفكار قد وقعت في هذا الشرك لاحقا!)، ثم تطورت الأفكار القومية تطورا كبيرا في النصف الأول من القرن العشرين، مع أفكار الكتاب السوريين الذين كان لهم قصب السبق في الفكر القومي العربي؛ "قسطنطين زريق" و"زكي الأرسوزي" و"ساطع الحصري" و"ميشال عفلق"!
مصر قبل ١٩٥٢م والأفكار القطرية
بينما راجت الأفكار القومية بالمشرق العربي عامة وسورية خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، كانت مصر في ذلك الوقت مسرحا للأفكار القطرية التي حاولت جهدها أن تنفي عن مصر صفة العروبة، وترسخ فكرة الانتماء المصري كمناقض للانتماء العربي! وهي الفكرة التي وجدت من يقول بها كذلك في سوريا والعراق ولبنان وغيرها، وإن كان صوت النخب القطرية في مصر قبل ثورة يوليو/تموز ١٩٥٢م أعلى من غيرها! وكان دعاة القطرية في مصر دائما - ومازالوا - يؤسسون أفكارهم على الدعوة إلى انتمائين؛
- انتماء فرعوني، يقول بأن المكون الفرعوني أقوى في تركيبة الشخصية المصرية من المكون العربي
- انتماء بحر-متوسطي يقول بأن ارتباط مصر بأوروبا المقابلة لها عبر المتوسط أقوى من ارتباطها بالشرق العربي.
وقد جمع عميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور "طه حسين" في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر؛ طابعها وطباعها" بين الفكرتين، إذ قال بأن الانتماء الثاني مؤسس على الأول، واضاف: "مصر ثقافيا وحضاريا هى دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة، فالعالم ينقسم إلى حضارتين لا ثالث لهما؛ الأولى تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة وفلسفة اليونان والقانون الرومانى، والثانية تأتى من الشرق، الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار"! ولا شك أن وجود حزب الوفد على رأس الحركة الوطنية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وبحكم توجهاته الليبرالية الغربية، قد حكم اللغة السائدة عند النخب والشارع المصري، فراجت تلك الدعوات حتى قامت ثورة يوليو. فكانت تجربتها العروبية المعروفة. لكن توجه الدولة المصرية تغير من جديد بعيد عقد الصلح المنفرد مع العدو الصهيوني وما تبعه من مقاطعة عربية، فرأت السلطة السياسية بقيادة "السادات" أن بعث الأفكار القطرية الانكفائية ينبغي له أن يكون شعارا للمرحلة، وكان لها ما أرادت، واستمرت تلك الأفكار رائجة حتى اليوم!
كما تتقارب الأفكار والأدبيات القومية رغم اختلاف الأقطار، تتشابه كذلك الأفكار القطرية في مختلف الأقطار العربية، وتعتمد تلك الأدبيات القطرية في الفكر العربي المعاصر على ركيزتين بالأساس؛
(١) تزكية الانتماء الوطني/ القطري على حساب الانتماء القومي، بزعم التعارض بينهما، ودعم انتماءات تاريخية قديمة؛ فرعونية أو فينيقية أو آشورية .... الخ ومحاولة بعثها للحاضر بوصفها هوية للشعب بدلا من الهوية العربية! والتهويل من قدرات وإمكانات القطر العربي والتهوين من باقي الشعوب العربية! خاصة شعوب الجوار المباشر!
(٢) الزعم بأن المصالح القطرية لكل دولة متعارضة مع المصالح القومية العامة، وأن الأخطار المشتركة هي خطر يخص الآخرين وحدهم! فتصبح القضية العربية قضية فلسطينية، ويمسي الصراع العربي الإسرائيلي صراعا فلسطينيا-إسرائيليا.
(٣) نفي فكرة العرب كأمة واحدة! بالتركيز على الخلافات البينية والفروق الثقافية بين شعوب تلك الأمة! والدفع بأن مواصفات الأمة لا تنطبق على العرب!
ولهذا، ولأن هذه الأدبيات والأفكار مازالت حية ومعاصرة، ربما كان من المجدي أن نرد عليها في هذا المقال!
هل يتعارض الانتماء الوطني مع الانتماء القومي؟
للانتماء بطبيعته دوائر متداخلة، فأنا أنتمي لمسقط رأسي بمدينة طنطا بدلتا النيل، وأنتمي لمحافظتي الغربية، دون أن يتناقض هذا مع مصريتي وانتمائي لوطني! ودون أن ينتفي انتمائي لمصر مع انتمائي لأمتي العربية! فالانتماء القومي ما هو إلا امتداد لخط الانتماء الوطني ! فلا يمكنك أن تكون عربيا إلا أن تكون مصريا أو سوريا أو لبنانيا أو أردنيا ... الخ! لهذا فقولهم أن الانتماء القومي يعارض الوطني لا يقبله منطق إلا لو قبلنا أن انتماء الحلبي للشهباء يتعارض مع الانتماء لسوريا، أو انتماء البعلبكي لمدينته يتعارض مع الانتماء للبنان!
المصالح الوطنية والمصالح القومية
وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في ١٩٨٢م بذريعة وجود قوات منظمة التحرير الفلسطينية فوق أرضها! وقتها رفع القطريون من أنصار الانكفاء الداخلي في لبنان عقيرتهم بأن لبنان صار مسرحا لحرب بالوكالة بين منظمة التحرير وسوريا وإسرائيل! وألا مصلحة وطنية لبنانية في حالة العداء مع إسرائيل والتي جلبت لها الغزو! فماذا حدث عندما انسحبت منظمة التحرير من لبنان بعيد الغزو؟ هل انتهى تدخل الكيان الصهيوني في الواقع السياسي اللبناني؟ ألم يقم بنزع سلاح الاحزاب الوطنية اللبنانية بهدف تمكين الكتائب؟ ألم يوشك على حمل "بشير الجميل" لسدة الرئاسة لولا اغتياله؟ ألم يفرض اتفاقا ظالما للسلام لولا إسقاطه بيد الشعب اللبناني؟
هل العرب امة ؟
لن أتحدث هنا بلغة الحق والباطل، وبلغة الأرض السليبة والكيان الدخيل، ولكني سأتحدث بلغة براجماتية بحتة! من واقع تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، يمكننا استنباط ما تريد إسرائيل تحقيقه في الدول العربية عامة ودول الطوق خاصة، ويتلخص في ثلاث شروط يترتب كل منها على سابقه؛
(١) الاستسلام لواقع التبعية للغرب اليورو-أمريكي والذي يقتضي الحرص على رضا إسرائيل بوصفها الوكيل الحصري لتلك القوى المهيمنة في الشرق العربي! فامتلاك القرار يؤدي للتنمية والازدهار الاقتصادي ومن ثم امتلاك أسباب القوة!
(٢) البقاء في حالة وهن اقتصادي لا تطفو معه الدولة ولا تغرق، لأن تحقيق التنمية والازدهار يستتبعه دائما الحرص على تطوير القوة القادرة على حماية هذا الازدهار، بينما حالة الفقر كفيلة بالحد من تطلعات الشعوب لامتلاك أسباب القوة!
(٣) الافتقار لمقومات القوة العسكرية، وليس فقط الالتزام بالسلام معها! فلو بقيت مقومات القوة في دولة عربية قد تتغير اتجاهات السياسة فيها ومن ثم التزامها بالسلام ذات يوم!
فلو كان من المصلحة الوطنية لأي قطر عربي أن يكون فاقدا لقراره، عاجزا عن التنمية، فاقدا للقدرة على حماية سيادته، إذن تكون من مصلحة ذاك القطر أن يكون على وفاق مع الكيان الصهيوني!
وبعيدا عن إسرائيل، يبقى سؤال محوري حول المصلحة الوطنية؛ لماذا يكون في مصلحة ألمانيا أن تكون ضمن الاتحاد الأوروبي، بينما مصلحة مصر أو سوريا أو لبنان ألا تكون ضمن اتحاد إقليمي ومنطقة تجارة حرة ونطاق عملة موحدة قوية؟ لماذا نقر بالمصلحة الوطنية الروسية في تمكين الاتحاد الأوراسي ونرفض المصلحة الوطنية للقطر العربي في تحقيق اتحاد عربي؟ واقع الحال أن قوى الهيمنة باعت لنا قضية هي أول من يعرف أنها واهية واهنة!!
هل العرب أمة؟
يعرف قاموس ميريام وبستر الأمة بأنها "جماعة بشرية تسكن منطقة جغرافية محددة، تنتمي لجنسية أو أكثر من جنسية، وتتميز بوعيها بالروابط بينها" وهو تعريف ينطبق حرفيا على الأمة العربية متعددة الجنسيات! ومعظم القواميس لا تربط الأمة بالجنسية، وإن ربطت بعضها الأمة بوجود حكومة أو تمثيل سياسي مشترك لها! وهو ما لا ينطبق على الأمة العربية في وضعها الراهن، وإن كنا لا نقبل هذا التعريف لأنه يعرف الدائم بالمؤقت! فالأمة مفهوم له دوام نسبي عبر التاريخ بينما التمثيل السياسي أمر متغير عبر فترات زمنية محدودة! أما عدم ربط الأمة بالجنسية الواحدة فمفهوم بلحاظ الواقع، فكون الأكراد لا يحملون جنسية واحدة لا ينفي عنهم صفة الأمة لأن لديهم شعور الترابط والصلة الذي يميز الأمة، ولديهم المنطقة الجغرافية المحددة التي يعيشون بها! ومثلهم الأمة الروسية التي تتجاوز حدود روسيا الاتحادية إلى أوكرانيا وغيرها لا يمثلها كيان سياسي واحد رغم شعورها الوحدوي ونطاقها الجغرافي المتصل! في النهاية تعريف الأمة يؤسس على شعور الجماعة البشرية في مجملها بالانتماء والصلة والترابط! فلو كان الدهر قد اختبر العرب بجماعات خرجت منهم تقول بأن الباكستاني المسلم أقرب إليهم من العربي المسيحي، فمازال السواد الأعظم من الأمة العربية يدرك تلك الصلات البينية ويقر بها بوجدانه وإن لم ينظر لها!
وعلى ما سبق، فالأفكار القومية قد شخصت واقع الشعب العربي بهويته المميزة ولم تخترعه! ورسمت مسارا للنهوض بمصالحه ومواجهة الأخطار المحدقة به، فأخطأت وأصابت! وبدأت أفكارا وحدوية انصهارية، ثم تطورت إلى أفكار اتحادية أكثر مرونة ومناسبة للعصر ولتطور واقع الشعب العربي! ولهذا حديث قريب في مقالنا القادم بعنوان؛ رحلة العروبة من الوحدة الانصهارية إلى الاتحادية المرنة.
*كاتب مصري