ارشيف من :ترجمات ودراسات

الغرب منذ 25 عاماً ... بداية الانهيار

 الغرب منذ 25 عاماً ... بداية الانهيار

الكاتب : Bernard Dugué
عن موقع  agoravox  الالكتروني
 أيلول / سبتمبر 2016

العام 1991، منذ 25 عاماً. إنه العام الرسمي الذي شهد بداية تفكيك الإمبراطورية السوفياتية التي تأسست عام 1917 بعد الثورة البلشفية بقيادة لينين. وقد عكف العديد من المثقفين الأوروبيين على النظر في هذا الحدث، ولكن دون فهم دلالاته وأبعاده. ومن خلال مرآة الكتلة الشرقية، شعرت القوى الغربية بالارتياح، كما وجدت أنها على حق لجهة معتقداتها الإيديولوجية التي تربط بين الديموقراطية واقتصاد السوق. ولكن الأوساط الحاكمة في الغرب  لم تلبث أن استغرقت بالتدريج في النوم وهي تدير البلدان الغربية كما ولو أنها شركات كبيرة. وكل ذلك إلى حد انطفأت معه الآمال الجماعية لصالح الأهواء الفردية التي تجمع بين هاجس الجسد والملاهي والنجاح الاقتصادي الشخصي. لقد اختفت الحركات الاجتماعية الواسعة النطاق والقوية لصالح بعض المجموعات الاعتراضية المضادة للعولمة أو الداعية إلى التوجهات الوطنية الجديدة. لم يعد من المهم في العام 2016 بناء المستقبل بل حماية [الحاضر]. أما التهويمات المناخية فقد جعلت الناس يعتقدون بأن القيمين على مؤتمر باريس للمناخ (2015) قد قرروا إنقاذ الكوكب.

إن العالم المتقدم يرى نفسه في مرآة التنمية المستديمة، ولم يعد يميز بين العالم الواقعي وعالم المنتجات "الصاعقة" على المستوى العالمي (المنتجات التي يشتد عليها الطلب الجماهيري: أفلام، أشرطة فيديو، ألعاب إلكترونية...) والتي توضع لها السيناريوهات والقصص من قبل عملاء الاتصالات التابعة لأجهزة التفكير التكنوقراطي. رجال السياسة ما عادوا يؤمنون بالمجتمعات المدنية، وهم لا يعولون إلا على النمو الذي توقف عن النمو منذ فترة طويلة. كما علينا ألا ننسى الوهم التكنولوجي الناشئ عن بروتوكول ليشبونة الذي تبين سريعاً أنه يشكو من المحدودية ومن عيوب عدة.

منذ العام 1991، جاء البؤس السياسي والمظاهر الخداعة للتطور التكنولوجي مترافقاً مع تراجع الثقافة. ففي فرنسا، لوحظ هذا التراجع من قبل جان-ماري دوميناك من خلال مسيرة الرواية. فخلال السنوات الأخيرة، لم تترك الروايات زاوية من زوايا الماضي إلا وفتشت فيها بحثاً عن الإلهام والاستيحاء وعن إثبات الصدق الأدبي مقابل هيمنة  الأدب المغرق في الذاتية والنرجسية.

 الغرب منذ 25 عاماً ... بداية الانهيار

فرنسا ...الامة العجوز

ومنذ العام 1991، اهتمت قنوات التلفزة بتحقيق النجاح عن طريق اجتذاب العدد الأكبر من المشاهدين، وقامت لهذه الغاية ببث منتجات صناعية ذات بنى محددة سلفاً. لكن بعض جيوب المقاومة استمرت بالوجود وحققت نوعاً من الخلاص الإعلامي عن طريق بعض القنوات والبرامج ذات النزوع الثقافي... وقد تمكنت السينما الشعبية من اجتذاب الجماهير، ومع هذا، سجل تراجع كبير في جميع القطاعات بما فيها الأدب العلمي في فرنسا. لا أعرف شيئاً عن الاوضاع في بقية البلدان الأوروبية، لكنني أعرف أن العلوم والإعلام العلمي في العالم الانكلو-سكسوني هي في وضع أفضل، إذ من الملاحظ وجود مقالات من مستوى جيد جداً في العديد من المجلات العلمية.  أما المجلات العلمية في فرنسا فهي ذات أطر محددة سلفاً وموجهة للتلامذة الذين تجمعهم قاعات المحاضرات. مجلة "البحث" (La Recherche) لم تعد مجلة المغامرات الشيقة التي عرفناها في الفترة بين الستينات والثمانينات. والتدهور البطيء للفكر العلمي يأتي مترافقاً مع بؤس التعليم الوطني مع تزايد في أعداد الفئات الشابة التي لم تعد تحب بذل الجهد ولا شغف عندها بالتعلم.

لنتصور أننا في العام 2017، ولنقم بجولة انتخابية. ليس هنالك ما يسمح بكتابة أطنان من الصفحات. الرئيس السابق ساركوزي المنظور إليه إيجابياً في وسائل الإعلام دائم الانقباض والهيجان وهو يقيء غضبه وهوسه وكأن ما يجري هو نوبة ناتجة عن إصابة في الرئتين. أو الرئيس هولاند، ذلك الرجل الذي لا يتمتع بأية مزايا والذي يمثل، منذ أربع سنوات، دور الرئيس في وسائل الإعلام مستفيداً من قاعدة من المناصرين الذين لا يشكلون قاعدة شعبية لكثرة ما كان أداؤه ركيكاً. وسائل الإعلام تلعب ورقة التجديد دون أن تلاحظ أن برينو لومير " Bruno Lemaire " هو، لجهة تفكيره، في ثمانينات الشيخوخة بأفكاره الرجعية وردات فعله المعروفة على مستوى المتقاعدين. إنه يبدو مثل كاثوليكي طيب مكتمل القيافة من زمان جورج بومبيدو. إيمانويل ماكرون " Emmanuel Macron " ليس أكثر جرأة. إنه يغمس إيديولوجيته بفلسفة الوضعيين التي ازدهرت عام 1830، وبنزعة الجمهورية العلمية كما شهدناها في الجمهورية الثالثة. لا يظهر إذن أي شيء تجديدي لدرجة أن آلان جوبيه يبقى المرشح الوحيد الذي يفرض نفسه بطبيعة الحال لعدم وجود منافسين أكفاء. إذ رغم بلوغه السبعين من العمر، فإنه يتمتع بروحية هي الأكثر شباباً. لكن كل شيء يظل أمرًا نسبيا، وفرنسا لم يعد بمقدورها أن تنتخب رجلاً جريئاً لأن هذا البلد يحمل عقلية الأمة العجوز المتعفنة، التي تتحرك في ظل أفكار هرمة يرفعها تكنوقراطيون. آلان جوبيه هو، إلى حد ما، الربان الحكيم الذي يبدو قادراً على تجنب غرق السفينة الفرنسية.

وبوجه أكثر عمومية، فإن جميع بلدان الغرب مفخخة بهذا التيه الإيديولوجي الذي يعبر عن نفسه بصيغة عدم التعاطف مع الطبقات الحاكمة. منظمة الأمم المتحدة تعيش حالة من القلق إزاء الخطابات الشعبوية دون أن تركز على المجال الذي يعزز تجذر الشعبوية عند أناس يشعرون بأنهم متروكون من قبل النخب المترحلة بين البلدان والمنفصلة بذلك عن شعوبها. تلك النخب تدير بلدانها وكأنها شركات تجارية بدلاً من أن تتعامل معها بوصفها مجموعات بشرية تجمع بينها الآلام والطموحات والمنبت القوي على المستويين التاريخي والثقافي.

هذا الأفول في فرنسا وغيرها من البلدان يجد تفسيره في غياب التجديد منذ 25 عاماً. فالمكتسبات المتحققة بين القرن الثامن عشر والعام 1980 قد استنفذت بالكامل وأصبحت مهترئة في الوقت الراهن. حتى في الولايات المتحدة تتضح معالم الاضطراب مع هذين المرشحين اللذين يثيران وضعاً من التحدي غير مسبوق في هذا البلد. وفي فرنسا، لم ينبثق عن بهلوانيات الانتخابات الرئاسية رجل ذو بصيرة ورؤية. لكن هذه البهلوانيات كان لها الفضل في تسلية المشاهدين بجهود صحافيين أصبحوا معتادين على التعليق على الحياة السياسية وكأنها مباراة في كرة القدم... والأكيد الآن أننا سنذهب بعيداً لأن المجتمع قد أصبح مركزاً تجارياً.

عندما تطايرت أحجار جدار برلين، حصل الألمان في ألمانيا الشرقية على أوراق نقدية بالمارك ليشتروا بها سلعاً في عالم السلع المتحرر. ثم لم يتغير شيء منذ ذلك الوقت. إن مسيرة الانهيار الطويلة للتاريخ الحديث قائمة على قدم وساق. ولا شيء يمكنه أن يحرف هذه المسيرة التي تمتاز بكونها ترضي أكثرية من الناس الذين يتدبرون أمورهم أو/و لا يعبأون كثيراً بما تعنيه القيم والأخلاق.
ومع هذا، فإن الأفكار الثورية تنبثق في الكثير من القطاعات، لكنها لا تشكل موضوعاً للمشاركة فيها  ولا لتفحصها. فالناس يفضلون الأفكار المقبولة مع استعدادهم للتعفن داخل وجود مقبول.

2016-10-04