ارشيف من :آراء وتحليلات

عروبة سوريا؛ شمس الوجدان وغمامة الغضب!

عروبة سوريا؛ شمس الوجدان وغمامة الغضب!

أتفهم تماما قول بعض أصدقائي السوريين اليوم بأنهم سوريون وكفى! وبأن انتماءهم صار لسورية وحدها، وأن انتماءهم القديم للعروبة قد انصهر في آتون الأزمة الملتهبة! فقد صدق فيهم قول "نزار قباني" رحمه الله حين وصف التآمر العربي على الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر" بقوله "أريناك غدر العروبة حتى كفرت"! أتفهم كل هذا ولكنني - بكل الحب - لا أوافقهم عليه! فالشعب السوري عربي بالوجدان أكثر من أي شعب عربي آخر، وشمس الوجدان الشعبي لا تغير لونها غمامة تعتريها! وليس هذا تشبيها مجازيا ولكنه واقع تاريخ الشعب العربي السوري قديمه وحديثه! ولن أتناول هنا تاريخ النخب السورية ودورها في تأسيس الفكرة القومية المعاصرة من الكواكبي للأرسوزي لعفلق! وإنما سأتحدث عن عموم الشعب السوري ووجدانه وعقله الجمعي العام! فهو الأساس الذي جعل معظم النخب القومية في عالمنا العربي من أصل سوري وليس العكس!

عروبة سورية سابقة على الإسلام!

نبدأ بتفنيد الخطأ الشائع وهو القول بأن العروبة طرأت على سوريا مع الفتح الإسلامي! وهو زعم تفنده حقائق التاريخ، وأهمها؛

(١) الحضارة الآرامية التي مازالت آثارها الحضارية والثقافية واللغوية باقية في سوريا لليوم ترجع جذورها للقرن الثاني عشر قبل الميلاد (قبل الإسلام بثمانية عشر قرنا)، والأبجدية النبطية-الآرامية هي أرجح الجذور اللغوية البروتو-سامية للغة العربية، وقد بحث المطران "مار غريغوريوس بولس بهنام" العلاقة العضوية بين الآرامية والعربية وتطورهما التبادلي بما يشير لعمق العلاقة الثقافية بينهما وقدمها!

(٢) الشعب النبطي الذي تبلورت هويته تدريجيا حتى أسس دولته قبل الإسلام بستة قرون، والتي امتدت بين بادية الشام وشمال الجزيرة العربية لتزيد من الروابط التجارية والثقافية، إذ كان الأنباط يكتبون بالآرامية ويتحدثون بلسان أقرب للعربية، ثم ظهرت الكتابة النبطية ثم الكتابة العربية بالخط النبطي! ولهذا فإسهام سوريا الكبرى في تكون اللسان العربي ومن ثم العروبة أكبر وأسبق من إسهام جزيرة العرب ذاتها!

(٣) أسس الغساسنة والمنتسبون لقبيلة الأزد العربية مملكتهم في الشام قبيل الإسلام، والأزد فرع من يعرب بن قحطان، وقدرة الغساسنة على تأسيس مملكة موالية للإمبراطورية البينزطية في الشام تفيدنا بحجم ملموس للهجرات العربية للشام قبل الإسلام!

(٤) لم تكن هجرة الشعوب السامية في نطاق المنطقة العربية مرتبطة زمنيا بالإسلام وإن زادت وتيرتها بعده بطبيعة الحال، لكنها لم تكن أحادية الوجهة من الجزيرة العربية إلى الأقطار المحيطة ولكن كان التوجه معكوسا في أحيان كثيرة! وقد قدم بعض الباحثين أدلة معقولة على ربط قبائل جرهم والعماليق بأصول مصرية قديمة

الشعب العربي السوري .. اسم على مسمى

لم يعرف تاريخ المنطقة العربية شعبا خرج عن بكرة أبيه في تاريخه المعاصر مرتين لاستقبال حاكم عربي من قطر آخر بالورود! ذلك أن شعور سوريا بذاتها هو شعور قومي، وتعريف المواطن السوري لنفسه هو تعريف عربي! ولهذا فليس غريبا أن تنفرد سوريا بسبق العروبة في اسمها الرسمي لاسم القطر! فهي الجمهورية العربية السورية، وجيشها هو الجيش العربي السوري!

عروبة سوريا؛ شمس الوجدان وغمامة الغضب!

دمشق تستقبل عبد الناصر!

كانت سورية هي الأسبق استجابة لنداء الثورة العربية الكبرى الذي أطلقه الشريف حسين في مكة! وفي أكتوبر/تشرين أول ١٩١٨م دخل "فيصل بن الحسين" إلى دمشق مع قواته العربية، وانسحب منها الجيش العثماني، لتخرج دمشق لاستقباله بأعظم حفاوة، وأعلن المؤتمر السوري العام في ٨ مارس/آذار ١٩٢٠م استقلال المملكة العربية السورية وتنصيب "فيصل الأول" ملكا عليها. لم يقل أحد يومها بأن "فيصل" حجازي وليس سوريا! لأن فكرة الانتماء العربي كانت دائما غالبة في الوجدان السوري على كل الأفكار القطرية! ويمر النصف الأول من القرن العشرين، وتفيض سوريا بمشاعر عروبتها من جديد مع بزوغ نجم الزعيم والقائد "جمال عبد الناصر" لتتحقق تجربة العرب الوحدوية المعاصرة الوحيدة في ١٩٥٨م ويستقبل "ناصر" في دمشق استقبالا أسطوريا مازال ماثلا في الأذهان ويدخل سوريا للمرة الأولى في عمره رئيسا للجمهورية العربية المتحدة! لم يقل أحد؛ ولكنه مصري!! لأن العروبة كانت دائما هي المعيار السوري الأول! فالشعب السوري الذي كان شوكة في حلق المحتل التركي -هي الأقسى والأصلب في منطقتنا العربية، فلم يهنأ تركي واحد بحكم دمشق بغير معارضة ومقاومة صلبة-  فتح ذراعيه دائما لاستقبال كل تجربة عروبية واعدة!

فيا أحبتي في شعبنا العربي السوري؛ أنتم العرب! وبوسعكم أن تنفوا صفة العروبة عمن غدركم من الأعراب والمستعربين! ولكن لا يسعكم أن تنفوا صفة العروبة عن أنفسكم لأنها كامنة تحت جلودكم! فلو غدر بالمرء كل أشقائه لم يكن ذلك مسوغا لينفي انتسابه إلى أبيه! فيزعم أنه فلانٌ وكفى! وإنما يحق له أن يصف الإخوة الغادرين بأنهم ليسوا أبناء أبيهم لأنهم لم يحفظوا للعصب حقا!   

* كاتب عربي مصري

 

2016-10-11