ارشيف من :آراء وتحليلات
تركيا والاندفاع نحو حافة الهاوية!
يتسم التعاطي التركي مع الشأن العراقي بالكثير من التناقض والارتباك والارتجالية. ويجد المتابع لدقائق وتفاصيل الامور صعوبة بالغة في الوقوف على اسباب ومبررات مقنعة وواضحة من قبل صناع القرار التركي، للاصرار على استمرار تواجدهم العسكري في العراق، رغم وجود رفض رسمي وشعبي عراقي واسع لذلك التواجد.
ومع تزايد ردود الافعال العراقية الغاضبة يزداد التخبط والارتباك التركي، حتى ليبدو ان الاتراك لا يعرفون ماذا يريدون بالضبط، وهل ما يريدونه قابل للتحقق على ضوء معطيات وحقائق الواقع ام لا؟.
ولعلنا نكتشف جوانب من ذلك التخبط والارتباك في التصريحات المتناقضة لكبار الساسة والمسؤولين في انقرة، وكأن كل واحد منهم يعيش في عالم منعزل عن الاخر.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان قال في مقابلة تلفزيونية اجرتها معه قناة روتانا خليجي السعودية في الثاني من شهر تشرين الاول –اكتوبر الجاري "أنه يجب أن يبقى في الموصل عقب تحريرها من العناصر الإرهابية، سكانها من السنة التركمان، والسنة العرب، والسنة الأكراد، وان الموصل لأهل الموصل وتلعفر لاهل تلعفر، ولا يحق لأحد أن يأتي ويدخل هذه المناطق".
وهذا التصريح متمِّم لتصريح اخر اعلن فيه اردوغان بصراحة ان بلاده تسعى الى منع قوات الحشد الشعبي الشيعية من المشاركة في تحرير الموصل من تنظم داعش والدخول اليها، وان تواجد قطعات من الجيش التركي في شمال العراق يندرج ضمن هذا الهدف.
اردوغان نحو حافة الهاوية في العراق
وفي وقت سابق كان رئيس الوزراء التركي السابق احمد داود اوغلو قد قال "أن وحدة التراب العراقي والسوري تعد أساسا بالنسبة لتركيا، وأن أي نوع من المخاطر الأمنية في البلدين تعتبر مخاطر تهم تركيا بشكل مباشر، وان الوجود العسكري التركي هناك يهدف إلى دعم الشعب العراقي، في سياق مكافحة الإرهاب، ولإزالة المخاوف الأمنية التركية بهذا الصدد، وكافة المناطق الممتدة شمالي الموصل وحلب، تشكل حزام أمان لتركيا، وأن كل فراغ يتشكل في تلك المناطق يملأه تنظيما داعش وحزب العمال الكردستاني الارهابيين، لذلك وجود جنود لنا هناك، هو ضمان لعدم تشكل ذلك الفراغ، كما أن وجودنا العسكري يعد بمثابة دعم لشعبي البلدين الشقيقين، وللحكومة العراقية، إضافة لكونه ضمانًا لأمننا".
وفي اكثر من مرة ادعى مسؤولون اتراك، ومن بينهم وزير الخارجية مولود جاويش اوغلو، "ان مهمة القوات التركية المتواجدة في شمال العراق تتمثل بتدريب قوات البيشمركة الكردية والحشد الوطني، وان الحكومة العراقية طلبت مرارا من تركيا تقديم مساندة اكثر فاعلية في محاربة تنظيم داعش الارهابي، معتبرا ان الموقف العراقي الحالي الرافض لنشر القوات التركية الان جاء تحت تأثير دول اخرى".
وقال الاتراك في مناسبات ومواضع اخرى ان رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني طلب منهم الدعم والتواجد العسكري للمساعدة في مواجهة تنظيم داعش، وقد سارع البارزاني الى نفي ذلك جملة وتفصيلا.
وكل ما أوردته تركيا كمبررات وحجج وذرائع لتواجدها العسكري في العراق، ناهيك عن كونه ضعيفًا ولا يصمد امام الحقائق على الارض، فأنه مرفوض ومدان ومستهجن، ويمكن ان تترتب عليه تبعات ونتائج خطيرة، سوف تنعكس عاجلا ام اجلا على تركيا قبل غيرها.
كيف تدعي تركيا انها دفعت بقواتها الى العراق، وانشأت معسكرات دائمة في مناطق من محافظة نينوى(الموصل) لمحاربة داعش، وهي التي قدمت-ومازالت تقدم-مع السعودية وقطر ودول اخرى، كل اشكال الدعم لداعش ومختلف الجماعات الارهابية الاخرى في العراق وسوريا؟.
وكيف تدعي انها حريصة على وحدة العراق، وهي التي تؤكد بكل صلافة، انها تسعى للحفاظ على التركيبة السكانية(الطائفية-القومية)، اي على الهوية السنية العربية-التركمانية لتلك المدينة، علما ان هناك نسبة كبيرة من ابناء المكون التركماني ينتمون الى المذهب الشيعي، ولعل مدينة تلعفر التابعة لمحافظة نينوى تضم اكثر من سبعين الف تركماني، غالبيتهم من الشيعة؟.
وكيف تدعي انقرة ان الحكومة العراقية طلبت منها مرارا تقديم مساندة اكثر فاعلية في محاربة تنظيم داعش الارهابي، بينما طالب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عدة مرات الحكومة التركية باحترام سيادة العراق وسحب قواتها من اراضيها، وادان مجلس النواب العراقي قيام نظيره التركي بتمديد بقاء القوات التركية في العراق لمدة سنة اخرى، ودعت الخارجية العراقية مجلس الامن الدولي الى التدخل لردع تركيا وايقافها عند حدها، ناهيك عن الموقف الشعبي العراقي، الذي كانت احد مصاديقه التظاهرة الاحتجاجية الحاشدة امام السفارة التركية في بغداد يوم الجمعة الماضي، في السابع من شهر تشرين الاول-اكتوبر الجاري.
لاشك ان ذلك الخلط والتناقض، يزيد الامور تعقيدا، ويقلص فرص احتواء حالة التأزم بين بغداد وانقرة، لاسيما حينما تتحدث الاخيرة عمَّن يشارك في تحرير الموصل، ومن لايسمح له بالمشاركة، وكأن الموصل مدينة تركية وليست عراقية. ومثل هذا المنطق المتهور والبعيد كل البعد عن الحكمة، يزيد من اصرار اطراف معينة-وتحديدا الحشد الشعبي-على المشاركة في عمليات تحرير الموصل، وبالفعل فإن الكثير من قطعات وتشكيلات الحشد تمركزت هناك، وتلعب دورا فاعلا ومؤثرا في وضع الخطط العسكرية وتوزيع المهام والادوار، دون ان تكون لتركيا أية قدرة لمنعها، واكثر من ذلك فإن بعض تشكيلات الحشد الشعبي اعلنت صراحة انها ستتعامل مع اية قوات اجنبية على انها قوات احتلال، وهذا يعني ان القوات التركية يمكن ان تكون هدفا لقوات الحشد.
هذا جانب، وهناك جانب اخر، يتمثل في ان استمرار التصعيد والتأزيم، وبفعل ضغط الشارع العراقي، قد يدفع بالحكومة العراقية الى اتخاذ اجراءات ذات طابع اقتصادي، من شأنها الحاق الضرر بتركيا التي تصدر الى العراق سنويا من البضائع والسلع المختلفة ما قيمته سبعة عشر مليار دولار، فضلا عن النشاط الاستثماري للشركات التركية في سوق العمل العراقي.
وكذلك فإن طبيعة التعاطي التركي، القائم على فرض الامر الواقع والاصرار على عدم الانسحاب العسكري من العراق، لن يضعف تنظيم داعش، بل ربما العكس، ولن يرهب او يرعب حزب العمال الكردستاني المعارض، بل ربما سيعود عليه بالنفع والفائدة، حينما يجد انه ليس بحاجة الى قطع مئات الكيلومترات في عمق الاراضي التركية لاستهداف تركيا، في ظل وجود قوات تركية قريبا من قواعده ومناطق تواجده بشمال العراق.
اضف الى ذلك ان المناخ الاقليمي والدولي الرافض للوجود العسكري التركي في العراق، يشكل عامل ضغط واحراج لانقرة، في وقت لم تنجح حتى الان بالخروج من دوامة ازماتها ومشاكلها، التي كان من عناوينها الاساسية خلال الشهور القلائل الماضية، الانقلاب وتبعاته وافرازاته، والعمليات الارهابية المتتابعة في عدة مدن تركية، ابرزها انقرة واسطنبول.
ولعل اقرب وصف-او توصيف-للسياسة التركية الحالية، هو انها عبارة عن عملية "هروب الى الامام" او "الاندفاع نحو حافة الهاوية"!.