ارشيف من :آراء وتحليلات

حينما كانت الرجولة لها اسم ... الشهيد البطل ... سليمان خاطر


 حينما كانت الرجولة لها اسم ... الشهيد البطل ... سليمان خاطر

عام 1966م، في قرية أكياد البحرية، مركز فاقوس، ولد سليمان لأسرة أكثر من بسيطة وكان هو أصغر إخوانه، فهناك ولدان وبنتان قبله... وفي طفولته وهو ابن تسع سنين، عاين سليمان آثار قصف الصهاينة لمدرسة "بحرالبقر" الابتدائية المشتركة بمحافظته الشرقية في 8 أبريل سنة 1970م، قام حينها جبناء سلاح الجو الصهيوني باستخدام طائرات الفانتوم الأمريكية، وقاموا بنسف المدرسة مخلفين 30 شهيدًا من الأطفال...
أكمل دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية، وحصل على شهادة الثانوية العامة، وانتسب إلى كلية الحقوق جامعة الزقازيق، والتحق رحمه الله مثل غيره بالخدمة العسكرية الإجبارية، وكان مجندا في وزارة الداخلية بقوات الأمن المركزي ..

وفي يوم 5 أكتوبر 1985م، كان سليمان في موقع النقطة 46 التي أوكل إلى رجالها تأمين حدود مصر من ناحية خليج العقبة، ومراقبة المياه الإقليمية والشاطئ، والطريق الممتدّ من طابا إلى شرم الشيخ، مروراً بنوبيع، وقد وصفت النيابة العامة العسكرية التي حققت فيما بعد، مع بطلنا سليمان خاطر تلك المنطقة بأنها: "جبلية صخريّة شديدة الوعورة" وبالتالي، فلا يمكن لأحد أن يخلط بينها وبين المناطق السياحية ليبرّر تواجد الصهاينة فيها، إنها منطقة غير سياحية، ولا يجوز اعتبارها غرضاً سياحياً، بل إن أقرب مكان سياحي لها، يقع على بعد 21 كم جنوباً و46 كم شمالاً ..


 حينما كانت الرجولة لها اسم ... الشهيد البطل ... سليمان خاطر

الشهيد البطل ...سليمان خطر

كان الوقت بعد الغروب بقليل، وقد أخذ الليل يزحف على تلك الهضاب الصخرية الجرداء منذراً بحلول ظلام كثيف وطويل .. وفجأة، أخذت أخيلة تتراقص أمام عيني البطل، زاحفة نحوه بأعداد كبيرة، ولاحت له بينها أجساد عارية لنسوة ورجال، أخذ يرقبها وهي تتقدم حتى إذا أصبحت على مدى قريب منه، وزاوله الشك باليقين بأنها إنما تقصده وتقصد بالأخص نقطته التي كلّف بحمايتها ومنع أحد من دخولها، صرخ يأمر المتقدمين بالتوقف مخاطباً إياهم باللغة الإنكليزية قائلا: "stop no passing" لكنه عرف من أشكالهم وعريهم أنهم غرباء، ولكنهم لم يتوقفوا .. واستمروا في سيرهم المريب، حتى إذا لم يدعوا أيّ مجال للانتظار، أطلق النار في الهواء محذّراً، ولكنهم سخروا من تلك النار -وكانت هناك قبله حادثة كانت مازالت حديثة حين استطاعت امرأة صهيونية أن تتحايل بالعري على أحد الجنود في سيناء، وتحصل منه على تردد أجهزة الإشارة الخاصة بالأمن المركزي هناك بعد أن ادخلها الشاليه المخصص للوحدة !
فوجه بطلنا نحوهم نيران رشاشه- بعد أن فرغ صبره، وبعد أن رأى بعضهم يبصقون باتجاهه، وباتجاه العلم المصري - فكان أن قتل سبعة منهم وجرح اثنين..

وبعد ساعات من الحادث تزلزل التاريخ المعاصر حينما واجهت الرئاسة المصرية العالم أجمع بتصريح لرئيس الدولة يقول فيه نصًّا... (( أنه فى غاية الخجل مما أرتكبه الجندي المصري ونتائج التحقيق الاولية تقول انه مختل  ..!!!
وسلم سليمان خاطر نفسه، وبدلا من أن يصدر قرار بمكافأته على قيامه بعمله، صدر قرار جمهوري - مستغلا سلطاته بموجب قانون الطوارئ - بتحويل البطل إلى محاكمة عسكرية، بدلا من أن يخضع على أكثر تقدير لمحاكمة مدنية كما هو الحال مع رجال الشرطة بنص الدستور الوضعي المصري ..

والعجب أن سليمان خاطر من رجال الأمن لا من رجال الجيش، فالمحكمة المختصة بالنظر في دعواه إذاً هي محكمة مدنية، والنيابة العامة أو من يمثلها هي من يخولها وفق القانون المصري الوضعي أن يقوم بالتحقيق الأوّلي في الموضوع، إلاّ أن المسؤولين المصريين كانوا متأكدين من أنّ القضاء المصري سيبرئ ساحة هذا البطل لأنه لم يفعل سوى القيام بواجبه ..

وصفته الصحف القومية "بالمجنون"، وقادت صحف العارضة حملة من اجل تحويله إلى محكمة الجنايات بدلا من المحكمة العسكرية، مؤتمرات وندوات وبيانات والتماسات إلى رئيس الجمهورية ولا من مجيب.

وقال التقرير النفسي الذي صدر بعد فحص سليمان اثر  الحادث أن سليمان "مختل نوعا ما"، والسبب أن "الظلام كان يحول مخاوفه إلى أشكال أسطورية خرافية مرعبة تجعله يقفز من الفراش فيفزع، وكان الظلام يجعله يتصور أن الأشباح تعيش في قاع الترعة وأنها تخبط الماء بقوة في الليل وهي في طريقها إليه".
وبناء على رأي أطباء وضباط وقضاة وكلاب الحكومة، عوقب سليمان لأنهم أثبتوا أن الأشباح التي تخيفه في الظلام اسمها صهيونية.

وفي المحكمة ...
وهكذا وفي هذا الجو المشبع بالإحباط استمرت محاكمة سليمان خاطر حتى يوم 7/12/1985م، حيث أجلت المحكمة القضية إلى جلسة يوم 22/12/1985م للنطق بالحكم.
وفي جلسة علنيّة نسبياً "إذ حالت قوى الأمن دون وصول الجماهير إلى قاعة المحاكمة"
أصدرت المحكمة العسكرية العليا في السويس والمؤلفة من اللواء مصطفى دويدار "رئيساً" وعضوية اللواء محمد خورشيد والعميد محمود عبد العال، والمقدم يحيى قاسم حسن بصفته ممثلاً للادعاء، وفي 22/12/1985م وبحضور المتهم وهيئة الدفاع حكمها بالقضية رقم 142 لعام 1985 جنايات عسكرية السويس، وقضى الحكم بالسجن المؤبد للبطل سليمان خاطر مع الأشغال الشاقة..

وما إن سمع الشهيد سليمان خاطر الحكم حتى صاح قائلا: "أن هذا الحكم، هو حكم ضد مصر، لأن جنديًا مصريًا أدى واجبه"، ثم التفت إلى الجنود الذين يحرسونه قائلا: "روحوا واحرسوا سينا، سليمان مش عايز حراسة، سليمان مات"
وقال -رحمه الله - : "أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه .. إنه قضاء الله وقدره، لكنني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم".
ومن العجب أن سليمان خاطر صار آخر جندي أمن مركزي متعلم!!، وكان حاصلًا على الثانوية العامة، ومنتسبًا الى كلية الحقوق في جامعة الزقازيق، وبسبب نخوته ورجولته وعمليته الشجاعة ضد الصهاينة، تغيرت سياسة الدولة ليصبح اختيار جنود الامن المركزي مقتصرا على الأميين فقط ..

وبعد أن صدر الحكم عليه وتم  ترحيله الى السجن الحربي بمدينة نصر بالقاهرة، وهناك وفي اليوم التاسع لحبسه وتحديدا في 7 يناير 1986م، وفي داخل زنـزانته الانفرادية في السجن الحربي، وفي مساء الجمعة الثالث من كانون الثاني عام 1986 أي بعد أسبوع واحد من صدور الحكم الظالم بدأ مسلسل الأحداث الذي انتهى بالإعلان عن انتحار بطل سيناء.

ففي ذلك المساء، وحسب ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية وبثّته إذاعة لندن، دخل إلى زنـزانة سليمان خاطر صحفي إسرائيلي يحمل كاميرا، بحجة إجراء حديث صحفي معه، وخرج الصحفي دون أن يجري الحديث لكن بعد أن أصاب سليمان في رأسه إصابات خطيرة بالكاميرا.
وفي اليوم التالي تمّ نقل سليمان خاطر إلى مستشفى السجن الحربي، والسبب الرسمي المعلن لهذا الانتقال هو علاجه من مرض البلهارسيا والذي أكدت أسرته ورؤساؤه ومرؤوسوه أن سليمان لم يكن مصاباً به.
والمرجّح أن زيارة الصحفي الصهيوني للشهيد سليمان خاطر في زنـزانته لم تكن بهدف إجراء حديث صحفي معه، بل بهدف معاينة الزنـزانة والبحث في صلاحيتها لخطوة قادمة كان يجري التخطيط لها في أعلى المستويات.

وجاء تقرير الدولة كعادتها ..
وخرجت علينا الصحف القومية العميلة "بمانشيتات" التي تحمل إمضاء أمن الدولة وتقول": انتحر بعد أن شنق نفسه على نافذة ترتفع عن الأرض بثلاثة أمتار"، وقال تقرير الطب الشرعي انه انتحر، وكذلك قيل في البيان الرسمي أن الانتحار تم بمشمع الفراش، ثم قالت "مجلة المصور" أن الانتحار تم بملاءة السرير، وقال الطب الشرعي أن الانتحار تم بقطعة قماش .
وأمام كل ما قيل، تقدمت أسرته بطلب إعادة تشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة سبب الوفاة، فرفض الطلب مما أكد قصة مقتله رحمه الله.
وقال أخوه:"لقد ربيت أخي جيدا، وأعرف مدى إيمانه وتدينه، إذ لا يمكن أن يكون قد شنق نفسه، لقد قتلوه في سجنه"..

إلاّ أن الطبيبين مجدي زعبل، وعبد المنعم عبد الهادي اللذين شاركا في غسل جثمان الشهيد أبديا الملاحظات التالية:
1ـ وجود آثار خنق بسلك حاد قطره 3 ملم، ظهرت آثاره حمراء حول الرقبة مكذبة الرواية الرسمية من أن الشهيد سليمان خاطر انتحر بشنق نفسه بشرشف السرير الذي كان يرقد عليه.
2ـ وجود آثار في الرقبة.
3ـ وجود آثار كدمات في أعلى الفخذ الأيمن.
4- تجمعات دموية في عينيه وهو ما يتعارض مع ادّعاء الانتحار، لأن وجود هذه الأعراض يؤكد أن الشنق قد تمّ والجسد في وضع أفقي، وبالتالي ينفي حالة الانتحار.
5ـ تقلّصات في الأطراف العليا والسفلى، وهذا يتنافى مع أعراض الشنق، لأنه في الشنق الرأسي يكون الجسد في حالة ارتخاء.
6ـ وجد الفم مغلقاً واللسان غير متدلٍّ، وهذا ينفي حالة الشنق الرأسي ويؤكد العكس: أي أن عملية الشنق تمّت في السرير، أو على الأرض.
7ـوجدت في أظافر الشهيد آثار لحم بشري، ممّا يدلّ على أنه قاوم قاتليه بشراسة ..  

وهتف الناس في الشوارع، "الشعب هياخد التار ... الصهيوني ده غدار" و"المعقول المعقول ... إن سليمان مات مقتول" و"سليمان قالها في سينا ... قال مطالبنا وقال أماينا" و" سليمان خاطر يا شرقاوي ... دمك فينا هيفضل راوي" و "سليمان خاطر قالها قوية ... الرصاص حل قضية" وكانت أجمل الهتفات "سليمان خاطر مات مقتول ... مات علشان مقدرش يخون"..

الخاتمة .. نختتم حديثنا عن سليمان بكلمات عمنا أحمد فؤاد نجم


آخر كتابي أيا مهجتي
أمانة ما يمشي ورا جثتي
سوى المتهومين بالوطن تهمتي
فداكي بدمايا اللي شاغلة الخواطر
بطول الزمان

2016-10-14