ارشيف من :آراء وتحليلات
معركة حلب وتغير قواعد اللعبة
بات واضحاً أن روسيا لن تتراجع عن استراتيجيتھا في سوريا، وعن السياسة التي رسمتھا، وخصوصاً في موضوع حلب. فثمة تصميم روسي على إسقاط المدينة مھما كلف الأمر، بحسب مصادر ديبلوماسية قريبة من موسكو.
وتؤكد المصادر أن روسيا تستفيد حالياً من الظرف الدولي السائد لتعزيز توجھھا في سوريا، فالإدارة الأميركية مشغولة بالانتخابات الرئاسية، وھي عندما كانت في عزِّ نشاطھا لم تتدخل في سوريا، ويستبعد أن تتدخل في ھذه المرحلة، إذ من الصعب أن تقوم بتغييرات جذرية في سياستھا في مرحلة الانتخابات والمرحلة الانتقالية إلى حين تسلّم الإدارة الجديدة ولايتھا في 20 كانون الثاني المقبل.
وقد حرص أوباما على مقاربة السياسة الخارجية بأن تكون شبه خالية من التدخل العسكري المباشر، وھو يحرص على أن يورث ھذه العقيدة لمن يليه في المنصب. فطوال ثماني سنوات في البيت الأبيض، عمل أوباما على انقاذ أميركا من التورط الذي قاد إليه بوش، ومن الصعب التصور أنه سيعمد في الأسابيع الأخيرة من ولايته إلى نسف ھذه العقيدة والتراجع عن مقاربة السنوات الماضية.
يبقى أحد الخيارات النظرية الموضوعة على طاولة القرار في واشنطن: ارھاق واستنزاف روسيا وحلفائھا، ودفع موسكو الى مستنقع شبيه بمستنقع افغانستان، وذلك عبر امداد المسلحين بأسلحة نوعية تثقل على الروس وعلى سلاح الجو الروسي. إلا أنّ ھذا الخيار وإمكاناته الفعلية كانا حاضرين لدى الروس وحلفائھم من بداية التدخل. ھذا الادراك لنية واشنطن من شأنه أن يوسع ھامش ھذه الأطراف في "محور المقاومة" للوقوف أمامھا لصدھا، بغض النظر عن كيفية ھذا الوقوف والصد. إذ من غير المتوقع أن يقف" محور المقاومة" مكتوف الأيدي أمام الخطر الداھم على الوجود والمصير، بكل المقاييس على مستوى المنطقة.
معركة حلب وتغيير قواعد اللعبة
في المقابل يلتقي الأوروبيون مع النظرة الأمريكية، إذ يرون أن ثمة تطورا مھما حيال الأزمة السورية داخل الاتحاد الأوروبي، يفيد أنه من الضروري انتظار الانتخابات الأميركية قبل أن ينخرط الاتحاد بتنشيط دوره في الأزمة السورية ووضع استراتيجية أوسع للمرحلة النھائية لكونھا تجعل المرحلة الانتقالية أكثر سھولة. وھنا يبرز رأيان:
الأول: فرنسا وبريطانيا تحاولان كبح جماح الاتحاد الراغب بالانفتاح على كل الفرقاء (بمن فيھم الرئيس الأسد نفسه)، والذي كان من نتيجته إرسال وزير الخارجية التشيكي الى دمشق. تريد باريس ولندن مزيداً من التشدد حيال سوريا وروسيا. يقول مسؤول أوروبي إنه "إذا تمكن الروس من تھدئة احتقان الرأي العام الدولي بخصوص حلب من خلال الھدنات التجميلية، يمكن أن يساعدوا أوباما في تمرير الشھرين الباقيين كما يرغب، أي من دون خطوات دراماتيكية".
الثاني: مسار لوزان الذي يجري استكماله، وهو لإنقاذ ماء وجه الجميع عبر التسلي باقتراح ستيفان دي ميستورا بالفصل بين "النصرة" وبقية الفصائل. فالاقتراح يلقى تشكيكاً أوروبياً باعتباره غير قابل للتنفيذ...".
أما روسيا فهي تعتبر أن الأوروبيين لن يقفوا في وجھھا، ويصف بعض خبرائھا أوروبا بأنھا باتت "القارة العجوز"، إذ ليس لھا قرار في الملفات العالقة. وتشعر روسيا في ھذه المرحلة بأن لا شيء يتھدد مصالحھا، ولا عقبة أمام طموحاتھا، وهذا ما أكدته مصادر أوروبية اطلعت على ما دار في قمة برلين الثلاثية، حيث قالت: إن بوتين "بقي حازما في مواقفه ولم يقدم أي تنازل". والصادم في كلام بوتين لھولاند وميركل، أنه شبّه وضع حلب بما كان عليه في مدينة غروزني، عاصمة جمھورية الشيشان، عندما كانت، وفق بوتين، تحت سيطرة "الإرھابيين". وقال الرئيس الروسي:"سنطبق في حلب ما طبقناه في غروزني"، أي استخدام القوة المطلقة لحسم الوضع، الأمر الذي فھمه المسؤولان الأوروبيان على أنه "حازم" في سعيه لحسم معركة حلب عسكريا.
مصادر أوروبية أشارت إلى أن روسيا تريد استخدام الأفكار التي تقدم بھا المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا حول خروج عناصر "النصرة، في الوقت الذي تؤكد عزمھا على تنظيف حلب من الإرھابيين والمسلحين، ما يعني رفضھا بقاء عناصر الفصائل الأخرى المسلحة داخل المدينة. وفي أي حال، فإن الغربيين ينظرون بكثير من الشكوك لمسألة فتح المعابر لخروج المدنيين، ويرون في ذلك محاولة لإفراغ المدينة من ساكنيھا. وعوضا عن ذلك، فإنھم يطالبون بوقف القصف وبإيصال المساعدات الإنسانية، والعودة إلى المسار السياسي. لكن، وجھة الأحداث لا تدل على أن الرھان الغربي على دور روسي معتدل مصيب، أقله في السياق السياسي الحالي.
في الخط الموازي، يتحدث مراقبون للوضع في سوريا عن تقارب تركي – روسي، فقد تم الاتفاق مع تركيا حول تقاسم الأدوار في سوريا، حيث تغض روسيا النظر عن الدور التركي. وتركيا أيضاً تحترم مصالح روسيا في سوريا، وسط معلومات عن اتفاقات بين موسكو وأنقرة تقضي بوصول قوات "درع الفرات" إلى مدينة الباب فقط ( 30 كيلومترا شرق مدينة حلب).
وكشفت مصادر دبلوماسية أن آلية التنسيق الثلاثي المكوّ نة من الجيش والمخابرات والخارجية في روسيا وتركيا، والتي تشكلت نتيجة زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لروسيا في آب الماضي تعمل بكفاءة كبيرة، موضحة أن الالتزام الروسي بدعم تركيا في التخلص من الخطر الكردي على حدودھا، قابله التزام تركي بالمساعدة في إخراج "جبھة فتح الشام" ("النصرة" سابقا) من حلب لفتح طريق الكاستيلو لدخول المساعدات الإنسانية للمحاصرين والمحتاجين.
وتتحدث مصادر بارزة في المعارضة السورية عن أن المخطط التركي "طويل الأمد" في سوريا، وهو يستھدف القتال على ثلاث مراحل:
الأولى: ضد "داعش" وصولا إلى مدينة الباب.
الثانية: التمدد شرقا من الباب إلى حدود منبج الإدارية.
الثالثة: طرد القوات الكردية من ريف منبج باتجاه الضفة الشرقية لنھر الفرات، وذلك بھدف إنشاء المنطقة الآمنة التي تطمح تركيا لتنفيذھا في داخل الأراضي السورية لاستضافة اللاجئين، وھي تمتد من جرابلس إلى أعزاز على الحدود التركية، وإلى العمق بمسافة 50 كيلومترا.
هذا التوافق بين أنقرة وموسكو مرتبط بأھداف معينة يسعى إليھا كل جانب، فتركيا تريد إبعاد الأكراد عن حدودھا، وروسيا لا تريد أن يدخلوا مدينة الباب، وكذلك لا تريد أن تدخل قوات الجيش السوري الحر المدعومة من تركيا الباب أيضا، لأن ذلك معناه تھديد لقوات النظام السوري في حلب.
وتقول المصادر: "التفاھم نفسه يقضي بالمحافظة على قوة النظام وتحقيق مصالح تركيا، وبعدم صدام النظام مع القوات المدعومة من أنقرة، وبالمقابل، لا بد من إرضاء تركيا بإخلاء منطقة غرب الفرات من قبل الأكراد الذين لا يحتلون أھمية بالنسبة للروس".
إذاً، المعادلة واضحة، حلب مقابل "درع الفرات". ھذه ھي المعادلة التي تعني أن تركيا تخلت عن حلب مقابل إطلاق يدھا في المناطق الحدودية عبر عملية "درع الفرات" التي انطلقت من جرابلس ثم دابق اللتين كانا تحت سيطرة "داعش" لتصل الى الباب ومنبج الواقعتين تحت سيطرة الأكراد.
باختصار، التفاھم التركي - الروسي غيّر طبيعة العملية العسكرية في سوريا، بالنظر إلى أن كل طرف منھما بحاجة للآخر، وليس لمصلحته التقدم إلى نفوذ الآخر، وھي التفاھمات التي سمحت لتركيا بالتمدد إلى العمق السوري. ولذلك فإن الأيام القادمة ستكشف عن مدى استمرار التوافق بين موسكو وأنقرة بشأن العمليات الحالية في شمال سوريا وحدود تلك العمليات.