ارشيف من :آراء وتحليلات
أميركا....والمستقبل المجهول مع ترامب
وأخيراً، انتهت الانتخابات الأمريكية التي تُعد الأكثر إثارة للجدل والاھتمام والانفعالات، وأدناھا مستوى في الحملات الانتخابية، والأضيق أفقا في ھامش الخيار الرئاسي بين السيئ والأسوأ، بين الخبث المتمرس والجنون المتمرد، بين ھيلاري كلينتون ودونالد ترامب.
وخلافاً لكل التوقعات والتقديرات واستطلاعات الرأي ونتائج المناظرات التلفزيونية، فاز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية وحصل على الرقم "السحري" المطلوب للفوز وھو 270 مندوبا، بعدما فاز في الولايات المتأرجحة والحاسمة للنتيجة: فلوريدا، أوھايو، ميتشيغين، ساوث كارولينا، نتيجة لم يتوقعھا أحد، وأحدثت صدمة في الحزب الديمقراطي أولا وفي الأسواق المالية ثانيا التي تفاعلت سلبيا وتعرض الدولار لضغوط فورية.
العالم يحاول استيعاب الصدمة التي أحدثھا فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية. ھذا الفوز الذي فاجأ الجميع حتى الحزب الجمھوري نفسه الذي لم يكن يتوقع أن ينجح ترامب في قلب معادلات انتخابية وسياسية رأسا على عقب. فقد نجح ترامب في اختراق المؤسسة السياسية التقليدية وأحدث تغييرا في قواعد اللعبة، واقتحم المشھد الرئاسي والمسرح السياسي الأميركي من الباب الواسع متجاوزا الأصول وقواعد اللعبة، ومخالفا كل الشكوك في أن يكون مرشحا قويا وقادرا على المنافسة وممتلكا فرص الوصول الى البيت الأبيض.
فمنذ بداية السباق الماراتوني الى البيت الأبيض نجح ترامب في مخاطبة الناخب الأميركي والعزف على وتر المسائل التي تدغدغ مشاعره. خطابه السياسي تميّز بالصراحة الى حد الوقاحة وبالغرور الى حد الفجور، وبالأسلوب الصادم في التعبير. خطاب ترامب عكس "المزاج" الشعبي على المستوى الوطني. الناخبون المحافظون الذين جذبھم ترامب قلقون من فقدان وظائفھم للمھاجرين، ومن بطء النمو الاقتصادي، وازدياد خطر الإرھاب في العالم وداخل أميركا. تأكيدات ترامب ومبالغاته أنه سيستعيد مكانة أميركا المھيمنة سابقا، وأنه سيضرب الإرھاب بقوة، وسيحرم المسلمين دخول أميركا ويبني جداراً لصد المھاجرين على الحدود الجنوبية، جعلته بطلا في ھذه الأوساط.
ظاھرة ترامب أكدت من جديد أن الديماغوجية السياسية في الأزمنة القلقة تنجح في اللعب على مخاوف الناس وقلقھم وتفلح في تضليلھم من خلال استغلال غرائزھم وھواجسھم. واللافت في ھذه الانتخابات أنھا أدت بالفعل إلى زعزعة ولاءات قديمة، وقلب حسابات تقليدية، وأطلقت العنان لمشاعر لم يكن أحد يدري بوجودھا. فدونالد ترامب لم يكن فقط مرشح الحزب الجمھوري، كان حركة إيديولوجية غاضبة ضد واشنطن كحكومة، ولقد تبيّن أن استراتيجية كلينتون الانتخابية والقائمة على "تخويف الأميركيين من ترامب المجنون والمتطرف وغير المتزن" لم تنجح، فيما نجحت استراتيجية ترامب التي عزفت على وتر الھواجس الأمنية والاقتصادية والأحاسيس الوطنية، وبدا ترامب على دراية أكثر بالمزاج الأميركي العام واتجاھات الرأي العام.
الجميع، مراقبين وخبراء ودبلوماسيين، يعتبرون فوز ترامب زلزالا وانقلابا وتحولا جذريا داخل الولايات المتحدة وخارجھا، وهو يعني أن أميركا تتغيّر والعالم سيتغير معھا وبسببھا. ولكن الجميع يحاولون التخفيف من حدة وحجم القلق والصدمة بالتركيز على نقطتين:
الأولى: أن "ترامب الرئيس" لن يكون مثل "ترامب المرشح"، وأن وعودا ومواقف كثيرة أطلقت أثناء الحملة الانتخابية ليست للتنفيذ، وإنما للدعاية ولضرورات انتخابية، خصوصا وأن ترامب شخص لم يسبق أن خاض تجربة سياسية أو شغل منصبا رسميا، ولا يمكن توقع أو تقدير قراراته وسياساته.
الثانية: أن ترامب سيكون محكوما بھامش محدد للتغيير في السياسات الخارجية الخاضعة لاستراتيجيات ومصالح ثابتة، والتي تصاغ عن طريق المؤسسة الأميركية وفي إطارھا أياً يكن الرئيس.
لكن، السؤال هنا، ماذا بعد فوز ترامب؟! أي عالم؟! وأي شرق أوسط؟!
ھناك من يعتقد بأن حجم الخوف من رئاسة ترامب مفرط به، وأن واقع مؤسسة الحكم الجماعي يحول دون تحوّل ترامب إلى رئيس كامل الصلاحيات الاستثنائية. وھناك من يصر على أن الخوف الكبير في محله لأن ركائز النظام العالمي برمتھا ستھتز إذا وصل إلى البيت الأبيض رئيس إقصائي واستفزازي.
مراقبون يرون أن دونالد ترامب سيختزل المسائل الدولية إلى تصنيف الأبيض والأسود، ذلك أن الرمادية لا تتماشى مع مبدأ التفكيك الذي يميّز معظم سياساته، فھو:
- يريد تفكيك الأسس المالية للعلاقة بين حلفاء "حلف شمال الأطلسي "ناتو" كي لا تتحمل الولايات المتحدة ذلك القدر من عبء مسؤولية الإنفاق.
- ويريد تفكيك العلاقة بين منظمة الأمم المتحدة والدولة المضيفة من ناحية الالتزامات النقدية، ومن ناحية الامتيازت التي تتلقاھا الأمم المتحدة في نيويورك.
- ويريد تفكيك النظام العالمي القائم ليعاد صوغه بناء على الشعبوية التي يستخدمھا ليركب الموجة وليس لأنه بعيد حقاً من النخبوية.
الحكومات الأوروبية مصدومة بالنتيجة التي لم تتوقعھا ولم تتمنھا. ترامب ھو أكبر شخصية أميركية تثير شكوكا علنية حول التزام أميركا بالدفاع عن أوروبا، أي التزام الحلف الأطلسي بالمادة الخامسة من ميثاقه، المتعلقة بالدفاع المشترك لدوله الثماني والعشرين، بما فيھا 22 دولة من التكتل الأوروبي.
اي مستقبل ينتظر اميركا مع ترامب؟
فالأوروبيون قلقون على مستوى الأنظمة والحكومات، وليس على مستوى الرأي العام فحسب، لأن التطرف صاعد في أوروبا ويمكن أن يوصل مارين لوبن رئيسة الجبھة الوطنية الفرنسية الى قصر الإليزيه، وھذا صار واردا وممكنا بعد وصول ترامب الى البيت الأبيض وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فالانتخابات الرئاسية في فرنسا ستجرى في الربيع القادم، في ظل وضع جديد قضى على آمال الحزب الاشتراكي وحصر المنافسة بين اليمين الوسط واليمين المتطرف الذي تمثله الجبھة الوطنية برئاسة مارين لوبان، والاعتقاد السائد الآن على نطاق واسع أن فوز ترامب فتح الطريق أمام فوز لوبان، وأن ما كان مستحيلا، صار ممكنا في أميركا ويمكن أن يتكرر ويحدث في فرنسا التي أحدثت فيھا مسائل الإرھاب والأمن والتطرف والھجرة والاقتصاد والبطالة تحولات عميقة.
أما عن الشرق الأوسط الحافل بالأزمات والملفات بدءا من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني المزمن وصولا الى الحرب والمأساة السورية وما بينھما، إيران والاتفاقية والتدخلات الخارجية، وتركيا والعلاقة المھتزة بفعل محاولة الانقلاب وما يتعداھا، والعراق والحرب المستمرة على "داعش" ومسؤوليات واشنطن في تأزيم أوضاعه، والتواصل المعتل مع دول الخليج، وحرب اليمن، وتصويب العلاقة مع مصر، وضبط الأزمة في ليبيا وحلّھا، والمساھمة في تمتين الاستقرار في تونس، وموازنة العلاقة مع الجزائر والمغرب، وغيرھا العديد من الملفات لا بد أن تشغل حيّزاً مھماً من جھد الإدارة الأميركية العتيدة ووقتھا، والتي بالتأكيد ستكون أمام امتحان صعب.
ومن التغييرات التي تلوح بوادرھا من الآن وعلى المدى المنظور ما يتعلق بـ:
1- الأزمة السورية، وانطلاقا من أن التطور الإيجابي في مسار العلاقات الأميركية - الروسية سيؤدي الى رفع درجة التنسيق والتعاون بين البلدين في سوريا، وتطوير الاتفاق الذي توصلت إليه موسكو مع إدارة أوباما ولم يُنفذ. ولكن إعادة تحريك العملية السياسية التفاوضية حول سوريا تنتظر تسلم ترامب سلطاته الدستورية وتركيز أوضاعه في مطلع العام المقبل، وحتى ذلك الحين فإن الفترة الفاصلة، فترة الشھرين المقبلين، ستكون حافلة بالتطورات العسكرية وتحديدا في حلب، إذ ستضع موسكو قرار الحسم في حلب موضع التنفيذ، وستعمل على إنجاز ذلك في فترة الوقت الأميركي الضائع وتعطل القرار الأميركي، وقبل انطلاق عھد ترامب تفاديا لإحراجه.
2- القضية الفلسطينية التي طغت عليھا وحجبتھا حقبة "الربيع العربي " فدخلت في غياھب النسيان ولم تعد أولوية عند المجتمع الدولي، والتي لم تحسن إدارة أوباما التعاطي معھا وفي إحداث أي اختراق وخطوة الى الأمام.
والآن تواجه القضية الفلسطينية مرحلة أكثر سوءا، ليس لجھة حصول تراجع إضافي في مكانتھا على الأجندة الأميركية والدولية، ولكن لجھة الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل من جانب ترامب، استنادا الى تصريحاته في حملته الانتخابية التي اتسمت بالعدائية تجاه الفلسطينيين، وفيھا تعھد بنقل السفارة الأميركية الى القدس ودعم إسرائيل في سياستھا الاستيطانية في الضفة الغربية، وفي موقفھا الرافض لقيام دولة فلسطينية.
القلق والتشاؤم الفلسطيني يقابله ارتياح وتفاؤل إسرائيلي بانتخاب ترامب الذي سيخرج العلاقات الأميركية الإسرائيلية من حال التوتر والتأزم أيام أوباما وسينقلھا الى مستويات جديدة، بناء على تصريح ترامب: "أنا أحب إسرائيل وأكن التقدير الكبير للمعتقدات والتقاليد اليھودية، ومعاً سنحول إسرائيل والولايات المتحدة إلى بلدين آمنين مرة أخرى. إدارتي ستقف إلى جانب الشعب اليھودي والقادة الإسرائيليين أمام الأعداء المشتركين، مثل إيران، الذين يريدون تدمير إسرائيل".
وبالتالي سيؤدي وصوله الى البيت الأبيض الى ثلاث نتائج مباشرة ھي:
1- نسف مشروع المؤتمر الدولي للسلام الذي تقوده فرنسا.
2- ممارسة ضغوط أميركية أقوى على الرئيس الفلسطيني محمود عباس للعودة الى المفاوضات المباشرة.
3- سحب مشروع الدولة الفلسطينية من التداول وحتى إشعار آخر.
باختصار، لن يكون بمقدور ترامب أن يتعافى سريعاً من مخلفات إرث سلفه الحافل بالتعقيدات والملفات الشائكة، وسيكون صعبا على ترامب رأب الصدع الذي أصاب العلاقة الأميركية التاريخية مع أھل الخليج أو عرب الاعتدال أيضاً، خصوصا وأنه ساھم في تعزيز ظاھرة الإسلاموفوبيا، من خلال مواقفه وتصريحاته العنصرية. ما سيؤدي إلى مفاقمة الفتور الذي يعتري علاقات كثيرة من البلدان العربية مع الولايات المتحدة وإلى تعزيز ظاھرة الإرھاب تالياً. ولن تكون علاقاته بأوروبا، وحتى ببعض جيرانه في أميركا اللاتينية أفضل حالا. سيوتر العلاقات مع إيران لمعارضته الاتفاق النووي معھا، وقد لا يستطيع إلغاءه.
تحولات استراتيجية جذرية بدلت في الثوابت التي درج الرؤساء الأميركيون لعقود الحفاظ عليھا ورعايتھا، وبدلت في صورة الشرق الأوسط وشبكة علاقاته ومصالحه، بعدما كسرت حدوداً محرمة وأحيت شياطين حروب لا أفق للخروج منھا قريباً.