ارشيف من :آراء وتحليلات

اوروبا وإيران في حسابات إدارة ترامب

اوروبا وإيران في حسابات إدارة ترامب

قلب دونالد ترامب تقاليد الديمقراطية الأميركية رأسا على عقب في رحلته التي بدأت قبل 17 شھرا للفوز بالرئاسة الأميركية، مستغلا من خلال ذلك قدراته الفائقة على الترھيب والمبالغة وبراعته في التعامل مع وسائل الإعلام التي جعلت منه واحدا من أشھر رجال الأعمال في العالم، وأدرك مستشاروه أن ليس بوسعھم أن يفعلوا الكثير لكبح جماحه. فقد رسم ترامب صورة قاتمة لأميركا، وقد جثت على ركبتيھا أمام الصين والمكسيك وروسيا وتنظيم" داعش"، قال:" إن ھدفه ھو إعادة "عظمة" أميركا من جديد، إن الحلم الأميركي انتھى، إذ أخمدته مصالح خبيثة في عالم الأعمال والساسة الفاسدين، وإنه وحده يمكنه أن يحيي ھذا الحلم".

وهو لم يكتف بذلك، بل وجه انتقاداته نحو حلفائه الأوروبيين، إذ اكد أن بلاده لن تواصل دفع فواتير تأمين أوروبا عسكريا، كما وجه انتقادات لحلف "الناتو"، مع تخلف دوله الأوروبية عن تحمل قسطھا المالي والدفاعي. لذلك لم يتردد مسؤولون أوروبيون في التعبير عن تأييدھم لكلينتون، بمن فيھم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي غازلتھا بالقول:"أنا معجبة بتفكيرھا الإستراتيجي وبالتزامھا القوي بالشراكة العابرة للأطلسي". ھناك بعض التفاوت مع زعماء يميلون كلامياً لترامب، نظراً للصعود اليميني المتطرف، لكن الغالبية أعلنت أن كلينتون ستكون أفضل حتما لأوروبا، فاتفاقية التجارة بين ضفتي الأطلسي، لتكوين أكبر منطقة حرة في العالم تشمل نصف تجارة العالم، سيكون لھا حظوظ أكبر مع الرئيسة كلينتون، في حين يَعدُ ترامب بإجھاضھا. كما أن ترامب متھم بالتسامح مع بوتين، بالتشكيك في الدفاع المشترك الأطلسي، فيما كلينتون يمكنھا المفاخرة بأنھا كانت من أوائل المتوعدين، علنا، بمنع بوتين من إعادة بناء الاتحاد السوفياتي داخل مشاريع أخرى.

اوروبا وإيران في حسابات إدارة ترامب

الغموض يكتنف سياسة ترامب...

تصريحات ترامب زادت من قلق أوروبا من وصوله الى البيت الأبيض. إنه قلق مبرر ومشروع، قلق ازاء التزامات إدارة ترامب بأمن أوروبا، وربما حتى بالتزاماتھا مع حلف شمال الأطلسي، وما يمكن أن يؤدي، في حال نفذ ترامب وعده بـ"أميركا أولا"، الى خفض العلاقات بين واشنطن وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ھذه العلاقات التي طبعت النظام السياسي الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن النتيجة المفاجئة والصادمة للانتخابات الأميركية ستعمل على تطوير الموقف حيال فكرة الدفاع الأوروبي، ولا سيما الموقف الأكثر ترددا في شرق أوروبا. فمن الأمور المقلقة لبعض حلفاء الولايات المتحدة في العالم ما ھدد به ترامب خلال حملته الانتخابية بعدم الدفاع عن ھذه الدول الحليفة بشكل تلقائي. وتبدو دول البلطيق في مقدمة ھذه الدول التي ينتابھا القلق في حال تعرضت لھجوم روسي على غرار الضم الروسي لمنطقة القرم قبل عامين. وكان ترامب قد قال في تصريحات لصحيفة"نيويورك تايمز" في تموز الماضي: "إنه لن يكون ملزماً في حال وصل إلى الرئاسة بمساعدة ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلا إذا قدمت إسھامات مالية كافية لحلف شمال الأطلسي". وھدد أيضا، بإغلاق كثير من القواعد العسكرية غير الضرورية، قائلا:" إنه يطالب الدول التي تحتضن قواعد عسكرية أميركية أن تدفع أموالا مقابل حمايتھا، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية." كما وعد ترامب بخفض الالتزام الأميركي في حلف شمال الأطلسي، وقال:" إنه سيطلب إلى الأوروبيين مضاعفة مساھماتھم في ميزانية الأطلسي".

ووفقاً لهذه التصريحات الصادمة لترامب، تفضل دول بارزة في الاتحاد الأوروبي بينھا ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا المضي قدما في "مشروع أوروبي أكثر استقلالية في مجال الدفاع والأمن" ، لأن الولايات المتحدة لن تتولى الاھتمام بأمن أوروبا وتعتبرھا مسؤولية أوروبية، ويكمن التخوف الأوروبي من نجاح ترامب في تقليص دور واشنطن في "الناتو"، ما يضع أوروبا أمام خطرين:
الأول: استراتيجي يتمثل في إطلاق يد روسيا في مناطق شرق أوروبا حتى وسطھا.
والثاني: حيوي يتمثل في خطر استمرار تدفق اللاجئين من مناطق النزاع في الشرق الأوسط، وخصوصا سوريا التي بات من المحتمل أن تلقى مصير أوكرانيا المجھول إذا قرر ترامب تسليمھا الى روسيا.

وبالنسبة للأوروبيين، فإن إعادة الاعتبار لروسيا وإعطاءھا دورا لا تستحقه على الساحة الدولية سيتسبب في انعكاسات سلبية على المستوى الأوروبي الداخلي، وسيعزز دور وشعبية اليمين المتطرف وسيرفع حدة التباين داخل الاتحاد الأوروبي، ما سوف يشجع دولا على طرح فكرة الانفصال والخروج على غرار ما فعلته بريطانيا، ويشجع الشعبويين والمتطرفين على العودة ببلدانھم الى حدودھا المعروفة. الخطر أن يرى أھل اليمين المتطرف في الغرب فوز ترامب سنداً وعوناً لھم في سياق المواجھة مع الساسة التقليديين والمؤسسات الحاكمة، وبعدما كانت أوروبا تجاھد لتطويق المتطرفين في مدنھا وشوارعھا جاءھم الغيث والمدد من وراء المحيط ورحبوا بـ"عصر جديد".

فأوروبا تنتظرھا استحقاقات انتخابية كثيرة وفي مقدمھا الانتخابات الرئاسية الفرنسية في ربيع 2017. وفي ھذا الإطار جاء تصريح زعيمة حزب "الجبھة الوطنية" الفرنسية المتطرف مارين لوبان عن:" أن اختيار ترامب رئيسا للولايات المتحدة يعزز من فرص انتخابھا رئيسة لفرنسا. لقد جعل السيد ترامب ما كان يظنه البعض غير ممكن أمرا ممكنا".
من حق أوروبا أن تخاف ليس فقط من نزعة ترامب الانعزالية، ترامب الذي أيقظ أوروبا وھددھا وأنذر كثيرين معھا (حلف الأطلسي ومنظمة التجارة الدولية، وحتى الصين التي تغرق العالم بمنتجاتھا). هذا القلق الأوروبي من الرئيس الأمريكي ترامب قابله حذر وترقب إيراني، والسؤال هنا، ماهو مصير الاتفاق النووي؟!
إيران لم تكن مصدومة بالنتيجة التي كانت توقعتھا بفوز ترامب، وذلك من خلال تصريح للسيد علي خامنئي :"إنه الفائز كونه الأقرب الى الشخصية الأميركية العامة، وھو انعكاس حقيقي لصورة الشعب الأميركي وسر الناس".

لكن طهران لم تتمكن من إخفاء قلقھا وإظھار حذر شديد في التعاطي مع الواقع الأميركي الجديد، بخلاف ما جاءت عليه ردة فعل روسيا التي ھللت لفوز ترامب وشرعت في فتح خطوط اتصال خلفية معه، وحتى ردة فعل النظام السوري الذي يكفيه أن ترامب يعطي أولوية لمحاربة الإرھاب و"داعش" ولا يھمه كثيرا إذا بقي الرئيس الأسد.
وما لم يقله ترامب أثناء الحملة الانتخابية، قاله مستشاره لشؤون الشرق الأوسط وليد فارس بعد الفوز، كاشفا أن الإدارة الأميركية تنوي فتح ملف الاتفاق النووي وإرساله الى الكونغرس، وستطالب الجانب الإيراني بعدد من التغييرات في الاتفاق، موضحا أن إدارة ترامب لا توافق على الاتفاق بصيغته الحالية وعلى إرسال مليار دولار الى النظام الإيراني دون مقابل.

لم يتأخر الرد الإيراني في الصدور وامتزجت فيه عبارات التحذير والتھكم،  وزير الخارجية محمد جواد ظريف صرح بأنه :" إذا قررت  الولايات المتحدة النكوص عن التزاماتھا بمقتضى الاتفاق النووي، فإن لدى إيران خيارات أخرى"، أما الرئيس الإيراني حسن روحاني فقد قال:" إن مكانة أميركا في المجتمع الدولي تراجعت بسبب السياسات الخاطئة ولم تعد لديھا القدرة على الترھيب من إيران (إيرانوفوبيا) وتشكيل إجماع دولي ضدها". رئيس ھيئة الأركان اللواء محمد حسين باقري قال:" إن ترامب تلفظ بكلام يفوق قدراته الذھنية وقدرات بلاده العسكرية عندما ھدد إيران في حملته الانتخابية، محذرا ترامب بعدم اختبار قدرات إيران "كي لا يندم" .

ھذه التصريحات الإيرانية ھي رد بمفعول رجعي على ترامب بعدما كان الاتفاق النووي والمفاوضات مع إيران وسياساتھا في المنطقة من محاور الحملات الانتخابية الأميركية. وكان  ترامب ذهب  الى حد وصف الاتفاق النووي بأنه كارثة وأسوأ اتفاق جرى التفاوض عليه على الإطلاق.
مما لا شك فيه أن إيران قلقة ومستاءة من "العبث الأميركي" المستجد بالاتفاق النووي ومن الغيوم التي بدأت تتجمع في سماء العلاقات الأميركية - الإيرانية بعد "مرحلة ذھبية" شھدتھا أيام الرئيس أوباما الذي كان أفضل رئيس أميركي لإيران ومعھا، فاعترف بنفوذھا ودورھا في المنطقة وغض الطرف عن تمددھا وتعاظم قوتھا، ولكن الإيرانيين ليسوا في حال ذعر وتشاؤم من أن كل ما أنجزوه من مكاسب سيضيع وما بنوه أيام أوباما سينھار، وإنما سيكتفون بسياسة الحذر والترقب للأسباب التالية:
الأول: ھناك فارق بين ترامب الرئيس وترامب المرشح، وإذا كان ترامب نجح في اختراق المؤسسة السياسية والحزبية، سيصعب عليه تجاوز المؤسسة الأميركية الرسمية التي ترسم وتضع سياسات واستراتيجيات.

الثاني: الاتفاق النووي ليس اتفاقا ثنائيا بين إيران والولايات المتحدة، وإنما ھو اتفاق دولي متعدد الأطراف ولا يستطيع  ترامب إلغاءه، وفي حال انسحاب واشنطن منه، فإنه سيجعل إيران في حل من التزاماتھا، ما يعني عودتھا الى إنتاج سلاح نووي.
باختصار، على واشنطن أن تعترف بأن العلاقات بينها وبين الدول الأخرى تتغير، فهناك عدم ثقة متبادلة بينها وبين حلفائھا، فالأطراف كلھا يجب أن تحترم دورة التاريخ وحق الشعوب كلھا بالتعبير عن رأيھا في ظل قوانين تحفظ حقوقھا، وإلا سيخيم الخوف من التغيير ومن الآخر، ومن التحولات الكبرى التي جرت وستجري على مستوى حكومات العالم، فقطار ترامب الجارف خلف جروحاً وانقسامات لن تقتصر آثارھا على بلاده بل على العالم.

2016-11-22