ارشيف من :آراء وتحليلات
ترامب الزلزال .. بالأرقام والوقائع !.
ليس من الجائز ان نقف حيال الانتخابات الأمريكية الأخيرة بالطريقة النمطية ذاتها التي اعتدناها ومؤداها: انهم كلهم متشابهون رؤساء ديمقراطيون او جمهوريون . نعم هذا صحيح من حيث المبدأ، ولكنه ليس صحيحا بالمطلق متى ادركنا ان واجب معرفتنا بالآخر تتعدى ثنائية العدو أو الصديق ! . إلى ابعد من هذا وهنا استعيد قولاً لكسنجر، أحد دهاقنة السياسة في القرن الماضي، "ليس هناك من اصدقاء في السياسة بل اعداء على درجات متفاوتة "!! . فكيف والحال مع عدو موصوف مما يستوجب أكثر أن نعرف ماذا يحدث في الضفة المقابلة ، وان نزن وتيرة تحركنا في مواجهته مع ارهاصات أزماته، وامريكا مأزومة منذ سقوط حساباتها في أوحال العراق، و تتعاقب موجاتها مع خيبة آمالها من حصاد ما اسمته " الفوضى البناءة " التي جنى ثمارها الروسي فيما يحصد اشواكها الغرب وربما الحليف التركي عما قريب !.
الأرقام تتكلم
غير ان انتخاب ترامب أشار إلى وجود صراع داخلي في امريكا كان يستعر تحت الجمر . وهو صراع طبقي بنسبة كبيرة، الظاهرة غير المسبوقة في امريكا، وقد استثمرها ترامب راكباً موجتها متحدياً الحيتان الكبيرة الصانعة للرئاسات في الولايات المتحدة، ذلك خلافاً لقواعد اللعبة، وحيث تصنع الرئيس بنسبة كبيرة مفاتيح من الرأسمال الصناعي والمالي ووفق منهج المؤسسات الممسكة بمفاصل السلطة، ومازالت هذه الحيتان تسعى لوضع الشوك في وجهه حيث اوقعها سقوط هيلاري في المفاجأة كما في الصدمة ! . ترى كيف اخترق ترامب قواعد اللعبة؟!. لفتني في هذا المقام احد المراقبين الأمريكين على محطة CNN في قوله: " ان ترامب الملياردير ! تكلم مع عامة الناس بلغة سائق الشاحنة " ، وهؤلاء بينهم شرائح متفاوته من القاعدين بلا عمل، إلى الفقراء، إلى من هم تحت خط الفقر والذين بلغ عددهم في امريكا نحو 45.3 مليونًا، بحسب ما جاء في تقرير هيئة الإحصاء الأميركية في أيلول/سبتمبر 2014 وبما يشكل قرابة 14% من السكان. من الصحيح ان خط الفقر في امريكا تحدد بـ 21756 دولارا في السنة لأسرة مؤلفة من 4 أفراد، لكن هذا رقما هزيلا متى علمنا بان امريكا هي من اغلى بلدان العالم . ولبيان منعكسات ماسبق ننظر في البيانات التالية :
ترامب: زلزال داخل اميركا
.*. كشف تقرير من مؤسسة آني أي فاونديشن أن واحدا من كل خمسة أطفال أمريكيين يعيش في حالة فقر، ونحو ستة عشر مليون طفل، يعيشون معظمهم في الاسر التي تكسب أقل من أربعة وعشرين الف دولار سنويا. فيما أظهرت نتائج تقرير لوزارة الإسكان الامريكية بالتعاون مع جامعة فاندربيلت نسباً اعلى وهي أن واحدا من كل ثلاثة من أطفال امريكا يعيشون في حالة فقر، ومشيرا الى أن عدد هؤلاء الأطفال في تزايد مستمر منذ الكساد الكبير عام 2008
* وفقا لمركز القانون الوطني لمكافحة التشرد والفقر فإن قرابة 3 ملايين شخص يعيشون تجربة التشرد سنويا في الولايات المتحدة، بينهم مليون و350 ألفا من الأطفال، كما أن مليونًا من العاملين بدوام كامل أو جزئي في الولايات المتحدة، لا يستطيعون تلبية تكلفة السكن. وبناء عليه أُنشئ 100 مخيم للمشردين، تنتشر على امتداد الولايات المتحدة . بعضها يتطلب دفع مبلغ بسيط من المال، وفقًا لما أورده مركز القانون الوطني لمكافحة التشرد والفقر المذكور .
* في بلد يتشدق بمقولات "حقوق الانسان " يعتبر إطعام الجياع جريمة ، مؤخراً ذكر تقرير صحفي أنه تم توقيف شخص في التسعين من عمره في ولاية فلوريدا الأمريكية، بتهمة "منح الطعام للمشردين" لأن ذلك جرى في حديقة عامة وهذا بمثابة " جريمة "! ، ذكرت تقارير أنه في مدينة رالاي، توعدت الشرطة الخيرين التابعين للكنيسة بالحبس حال تقديمهم الطعام أو الشاي أو القهوة للجائعين في الحدائق العامة، بدعوى أن قوانين المدينة تنص على ضرورة الحصول على تصريح رسمي بكلفة 800 دولار للقيام بهذا العمل !، وفي مدينة تامبيا مثلًا، تقوم الشرطة باعتقال وحبس كل من ينام في الطرقات..اي من دون النظر في خلفية المشكلة !!.
غير أن المفاجىء بل الصادم ، هو ما اوردته وكالة الأناضول نقلاً عن جوليات باراداث، إحدى المشرفات على مؤسسة "باوري ميشن" (مؤسسة غير حكومية تقوم بإيواء المشردين في نيويورك)، أن بين المشردين الذين تأويهم المؤسسة أساتذة، وخريجي جامعات أمريكية .
هذا هو الوجه الأخر لأمريكا وهو من أرهاصات الرأسمال المتوحش في اجلى معانيه، حيث تتمركز الثروة في يد حفنة قليلة؛ وهذه هي الأرقام الأمريكية التي تفضح ومصدرها مجلس الأحتياطي الاتحادي . وفيه أن 3% من سكان امريكا هم اصحاب الثروات الكبيرة الذين يستحوذون على 54.4% من "ثروة الأمة" ، فيما كانت عام 1989 في حدود43% ،وأما شريحة الأغنياء المتبقية والذين يمثلون 7% فيمتلكون 20.9% من الثروة ، وبالتالي فإن الباقي أي 24.7 % من ثروة امريكا هو من حصة 90% من شعبها فيما كانت 33% عام 1989 !. ولعل ذلك يظهر أن تمركز الرأسمال قد رفع الفارق في " فجوة الثروة " بحيث زاد الأغنياء غناً ، بينما زادت نسبة الفقراء
النمل الصيني
لفتني قول لأحد المعلقين على محطة BBC نقلاً عن مواطن امريكي قاتل مع الجيش الأمريكي في افغانستان : " لقد عدنا من الموت لنجد أن وظائفنا ذهبت إلى الصينين " . نعم فقد اقفلت معظم المصانع في امريكا بالنظر لكلفة الإنتاج العالية ، حيث يتقاضى العامل الصيني في الساعة من 1.5 إلى 2 دولار ، فيما يتقاضى العامل الأمريكي من 18إلى 22 دولارا في الساعة . ولأن الرأسمال لا يفكر إلا ببعد واحد هو الربح صارفاً النظر عن البعد الاجتماعي بكل مندرجاته الإنسانية وارهاصاته الأمنية ، فقد باعت شركة IBM قطاع إنتاج الحواسيب مع انظمتها المتطورة لشركة لينوفو LENOVO الصينية بعد ان تبين ان هذا سيوفر عليها 17 دولارا للكومبيوتر الواحد فيما لو جرى تصنيعه في امريكا، ما ادى لخسارة 60 الف موظف امريكي وظائفهم، وفي عام 2009 اغلقت GM عدداً من مصانعها ، ما نجم عنه تسريح 47 الفا من موظفيها بسبب الأزمة المالية العالمية والركود الاقتصادي والتنافس الشديد مع الشركات اليابانية المصنعة للسيارات.! وقبلها شركة فورد كانت قد سرحت 35ألفا من عمالتها. وبذا تحولت مدينة ديترويت المدينة التي تحتضن كبرى الشركات الأميركية إلى " مدينة للأشباح" . أما مصانع الأحذية في امريكا فقد اغلقت ابوابها منذ سنوات خلت، وهناك نكته يتداولها الأمريكيون وهي : " إذا توقف الصينيون عن صنع الأحذية فسيسير الأمريكيون حفاة " . استطراداً وفي السياق اجرت الشركات الصينية نحو 100 عملية استحواذ على شركات أمريكية في سنة 2016، بقيمة مالية إجمالية تصل إلى 80 مليار دولار ؛ يأتي ذلك كاستمرار لاستراتيجية الشركات الصينية في توظيف فوائض رأسمالها في السوق الأمريكية، حيث سجلت في العام 2015 أكثر من 70 معاملة مالية من هذا النوع بقيمة 11 مليار دولار. وبين هذا الاجتياح الصيني والتراجع الأمريكي قال احد الاقتصاديين الأمريكيين : "إن النمل الصيني سيحولنا إلى مجتمع من الصراصير " . وهكذا بين مستنقع الأزمات الاجتماعية كما رأينا وبين انكماش الاقتصاد الأمريكي ببعده الإنتاجي المعهود قبل عقود مضت، يشعر الأميريكيون بالقلق الذي اخفته وسائل الإعلام غفلةً أو تغافلاً. وبعد ذلك كله لا عجب في اختيارهم لترامب، لعلهم وجدوا فيه الرجاء للخروج من نمطية سياسية اوصلت امريكا إلى سلسلة من التراجعات والهزائم التي عبر عنها استاذ جامعي في ندوة طلابية حيث سألته إحدى الطالبات " لماذا نحن دولة عظمى " فكان جوابه صاعقاً للحضور : "كنا ... عندما كنا نطعم الفقراء أما الآن فإننا نقتلهم " .هنا السقوط الأخلاقي .