ارشيف من :نقاط على الحروف
عندما تبكي أميركا كلها على حلب
مؤثرٌ مشهدُ كريستيان أمانبور وهي تنتحب على حلب، تكاد تبكي، وهي الصحفية اللامعة، التي يُفترض أنها غطّت أكثر الأحداث دموية على امتداد العالم، والتي مرّ عليها الكثير من النكبات والنكسات والآلام.
يُفترض بصحفية مخضرمة مثلها أن تكون ضنينة بمشاعرها الخاصة، وهي تغطي حدثاً ما، في دولة ما، وهي الدولة البعيدة آلاف الكيلومترات عنها، والتي لا تمثّل لها أكثر من نقطة صغيرة على خريطة كبيرة، لا تفقه من أمرها شيئاً، ولا تعرف من أحوالها إلا بعض أخبار.
أليس هذا ما تعلّمه كليّات الإعلام والصحافة في أنحاء العالم؟ أليس هذا هو الحد الأدنى من الموضوعية والحيادية في العمل الإعلامي، كما تذكره مدوّنات السلوك ومواثيق الشرف للمؤسسات الكبرى؟
ولكن أمانبور خرقت كل ذلك، فلا بد أن يكون هناك حدث جلل، وكارثة كبرى، كي تتنازل عن كل ما تعلّمته وعلّمته، وتنتحب على الهواء مباشرة.
وقد عرّفت المذيعة البارعة هذا الحدث بكلمة واحدة: إنه "هولوكوست".
بالفعل، لقد تجرأت على أن "تستعير" مقدساً صهيونياً غير قابل للتصرف، مثل تعبير هولوكوست، كي تصف به حدثاً لا علاقة للصهاينة (اليهود) به، وفي هذه الخطوة ما فيها من تمرّد على القواعد، ومن خروج على كل الأدبيات، ومن انتهاك للمقدّسات الإعلامية التي كرّستها الحكومة العالمية الخفيّة على مدى العقود الماضية.
دموع امانبور ...دموع التماسيح
حدث لا علاقة له باليهود، مهما كان حجمه، يوصف بأنه هولوكوست؟ هذا أمر لا يمكن السكوت عنه، وقد احتجت الكثير من المنظمات اليهودية على هذا التصرف على كل حال.
ولكن لماذا يا ترى قامت الإعلامية البارزة بهذه المغامرة؟ ما الذي دفعها إلى اقتحام المخاطر، وتصوير ما يجري في حلب بأنه هولوكوست؟
هل هي تشفق فعلاً على أطفال حلب؟ هل يهمّها ما يحصل للمستشفيات التي تدمّر ـ حسب زعمها وزعم من يقف وراءها ـ بسبب القصف الجوي من الطيران الروسي والسوري، والذي لا يُصيب ـ للمصادفة ـ إلا المستشفيات والمؤسسات الخَدَمية في أحياء شرق حلب "المحاصرة"؟
هل هي متأثرة بوضع "المدنيين" الذين يعانون من مآسي الحرب في أحياء شرق حلب، فباتت كالأم الثكلى التي تفقد كل لحظة طفلاً من أطفالها وهي تتحدث عمّا يجري؟
ولا يقف السؤال عند أمانبور وحدها، بل ينطبق على قناة "سي أن أن" نفسها، التي تحوّلت نشرات الأخبار فيها إلى مناحة، والبرامج إلى مجالس بكاء وعويل، والبث كله تكاد تغطيه شارة العزاء السوداء.
ومن "سي أن أن" إلى غيرها من وسائل الإعلام الأميركية، ومن وسائل الإعلام إلى المسؤولين في الإدارة الأوبامية.. الكل استفاق على حلب، والمآسي في شرق حلب، وبات يكرر اسم حلب كمن يردد تميمةً ويعيد صلاةً ويخاطب محبوباً لا يستطيع له فراقا.
لماذا يا ترى هذا الاهتمام؟
ما الذي يدفع أميركا كلها للبكاء على شرق حلب؟
من خلال التجربة، ومع معرفة السوابق، وبعد اختبار أسباب الاهتمام الأميركية، يمكن الجزم أن سبب تركيز الولايات المتحدة بقضّها وقضيضها على ما يحصل في تلك المنطقة ليس إنسانياً، ولا يمتّ إلى الإنسانية بصلة، وإنما هو لأسباب أخرى، لا بد من البحث عنها والتفكير فيها كي نفسّر ما يحصل.
الأقرب إلى الذهن هو أن للولايات المتحدة، وللإدارة الأميركية، ولحلفاء هذه الإدارة شيئاً ما في شرق حلب.
ما هو هذا الشيء؟ أمر لا بد من التفتيش بدقة لمعرفته. هل هو جنود، مستشارون، حلفاء، عملاء.. أو أي شيء آخر بهذا الشكل وضمن هذا الإطار. هذا هو الشيء الوحيد الذي يجعل الأميركيين يبكون كل هذا البكاء نتيجة الضربات الموجعة التي يوجهها الجيش العربي السوري وحلفاؤه للمسلحين المتحكمين بمصير الأحياء المصادَرة من قبلهم في شرق حلب.
وإن لم يكن للأميركيين قوات وشخصيات مهمة في الداخل الحلبي، فهذا يعني أن استعادة القوات السورية النظامية السيطرة على شرق حلب يؤذي كثيراً المشروع الأميركي في سوريا، ويحطّم أحلاماً أميركية كانت مبنية على بقاء هذا الكانتون الوهّابي التكفيري في قلب مدينة حلب، وأن القضاء على هذا الكانتون يحدّ من قدرة واشنطن على التحرك على الساحة السورية.
من أجل ذلك، وفقط من أجل ذلك، تعتبر كريستيان أمانبور و"سي أن أن" وكل الإعلام الأميركي، ومعهم إدارة أوباما التي تذرف دموع التماسيح على الأطفال والمستشفيات، أن ما يحصل في حلب "هولوكوست"، لأن تحرير شرق حلب من المدّ التكفيري الوهابي هو "إبادة" لطموحات الأميركيين وأحلام الصهاينة، وكسر لخنجر مسموم ما يزال مزروعاً في قلب المدينة، يُدميها كل يوم، ويُدمي معها سوريا والمنطقة.. ولا بد لهذا الخنجر أن ينكسر في القريب العاجل.