ارشيف من :آراء وتحليلات
مفاوضات آستانة والمجازفة الروسية
العنصر الأكثر أهمية في مفاوضات آستانة هو في كونها واحد من أبرز الأحداث التي يشهدها تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية دون أن يكون للولايات المتحدة حضور فيها أو أي إسهام في صنعها.
أو، بكلام آخر، هي شهادة على أفول عصر الهيمنة الأميركية، وبداية عصر تحرري جديد يعود الفضل في ولادته إلى الجهود والتضحيات التي بذلها محور سوريا وحلفائها، خصوصاً مع الانتصار العسكري الذي تمثل بتحرير حلب.
ذلكم هو رأي العديد من المراقبين. وهذا الرأي يتمتع فعلاً بالكثير من الوجاهة. أما المسعى الروسي المتمثل بدعوة واشنطن، وربما بعض حلفائها الدوليين ولإقليميين، إلى المشاركة في المفاوضات، فقد تكون له مسوغات وجيهة، كما أنه قد ينطوي على مجازفات خطرة من شأنها أن تطيح بالمكتسبات الميدانية والسياسية التي حققها محور سوريا وحلفائها في الآونة الأخيرة.
في طليعة المسوغات، نجد الفرضية التي يراهن عليها الروسي والمتمثلة بإمكانية توسيع جبهة القوى المناهضة للإرهاب. وهي عبارة عن الاعتقاد بأن مشاركة الولايات المتحدة وحلفائها في العمل من أجل حل سياسي حقيقي لا يمكن إلا أن تمر بضرب الإرهاب، وخصوصاً بوقف الدعم المتنوع الأشكال الذي يقدمونه إلى الجماعات الإرهابية. والحق أن من شأن مثل هذا الخيار أن يلعب دوراً محورياً في اجتثاث الظاهرة الإرهابية، وفي وضع سوريا والمنطقة على سكة السلام والاستقرار.
ولكن المشكلة في هذه الفرضية هي، قبل كل شيء -وهنا ندخل في حيز المجازفات- في طبيعتها كمفارقة، وفي كونها تنطوي على تناقض داخلي حاد. إذ كيف يمكن للقوى التي خلقت الظاهرة الإرهابية وصرفت عليها مليارات الدولارات، وحشدت لها مئات الألوف من المقاتلين، ووضعت في خدمتها أجهزة إعلامية كلية القدرة، كيف يمكن لها أن تشارك في ضرب تلك الظاهرة التي عقدت عليها الأمال العريضة في إسقاط سوريا، وبالتالي في إحكام قبضة الهيمنة الصهيو-أميركية على المنطقة والعالم ؟
هذا لا يعني أنه من غير الممكن على الإطلاق أن يشارك المحور الأميركي في ضرب الإرهاب. لكن المعطيات الموضوعية غير متوفرة بشكل كاف للدلالة على أن معسكر العدوان على سوريا قد تخلى بشكل جذري عن أهدافه المتمثلة بدعم الإرهاب وبالعمل على إسقاط سوريا. وهذا أمر يمكن أن يلحظ يومياً حتى في تصريحات ومسلكيات المسؤولين الأتراك الذين يفترض بهم أن يكونوا في جملة الضامنين لحسن سير عملية التفاوض باتجاه الحل السياسي.
إن مشاركة القوى التي ما تزال أيديها ملطخة بالدم السوري في مفاوضات أستانة هي تهديد حقيقي بإفشال تلك المفاوضات أو، على الأقل، بتحويلها إلى ما يشبه مفاوضات جنيف التي لم تفعل فيها واشنطن وحلفاؤها، طيلة السنوات الماضية، غير تعطيل كل توجه نحو البحث عن حلول سياسية للمشكلة.
استانة: هل تجازف روسيا باسترضاء الاميركيين؟
هنالك خشية حقيقية من أن يكون حماس روسيا لمشاركة واشنطن وحلفائها في مفاوضات أستانة ناجماً عن توجهات استراتيجية قائمة على أوهام من النوع الذي يصور الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، كشريك يعتمد عليه في إقامة عالم أكثر أمناً واستقراراً.
أو أن يكون ذلك الحماس ناتجاً عن الاعتقاد بأن تلطيف الأجواء مع واشنطن من شأنه أن يدفع باتجاه رفع العقوبات التجارية التي تفرضها بلدان الغرب على روسيا، أو باتجاه وقف الضغط الغربي المتمثل بالتحشيدات العسكرية المتصاعدة على مقربة من الحدود الروسية في بلدان البلطيق وأوروبا الشرقية والبحر الأسود.
وهنالك بشكل خاص خشية من أن يسيل لعاب الروس نتيجة لتصريحات أدلى بها الرئيس الأميركي مفادها أن حلف الناتو قد فقد مبررات وجوده، وأن من الضروري استبداله بحلف جديد تكون روسيا طرفاً أساسياً فيه.
فهل يعني وجود حلف عسكري يضم روسيا إلى جانب بلدان الغرب شيئاً آخر غير تخلي روسيا عن توجهاتها المعادية للامبريالية والتي عبر عنها الرئيس بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007 ؟ وغير انتقالها إلى صف البلدان الإمبريالية ؟
هذا التوجه الجديد في السياسة الروسية يذكر بسياسات الوفاق والتعايش السلمي مع الغرب والتي كانت في طليعة الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.
كما أنه لن يكون مفيداً لروسيا. إذ بدلاً من أن يعاملها الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بالشكل المتناسب مع انضمامها إلى المعسكر الغربي، قام بإخضاعها إلى أبشع أشكال النهب والإذلال والاحتقار.
هذا التوجه الجديد في السياسة الروسية يذكر أيضاً بأولئك الزعماء العرب الذين تخلوا طائعين عما يمتلكونه من أوراق القوة ليجدوا أنفسهم في مواجهة لم يتردد الغرب لحظة في ضربهم بأعتى ما يمتلكه من أسلحة.