ارشيف من :آراء وتحليلات

الصراع بين ’الموكل’ و’الوكيل’ في اميركا

الصراع بين ’الموكل’ و’الوكيل’ في اميركا

منذ اغتيال جون كينيدي في 1963، لم تكد تمر اي انتخابات رئاسية اميركية بدون الخلافات والمشاحنات السياسية. وكانت تقتصر دائما على الجانب الاعلامي، وفي بعض الحالات كان يتم تدخل القضاة واعادة فرز الاصوات وما اشبه. وهذا كله كان يوضع في خانة "الديمقراطية الاميركية".

وحسب رأيي المتواضع، واعتقد ان الكثير من المحللين يشاركونني هذا الرأي، ان حملة الاعتراض على انتخاب ترامب وعلى "شخصه" و"سياسته" (ـ الغامضة والمتضاربة حتى الان)، يمكن ان تغير اشكالها، ولكنها "لن تتوقف" الا بتصفية ترامب شخصيا، اي اغتياله او "تعطيله" بشكل من الاشكال، او "تنازله الطوعي!" عن الرئاسة واجراء انتخابات جديدة، او استسلامه غير المشروط للسياسة التي يمليها عليه اعداؤه، وهذا اهون الشرور ولكنه ابعدها، لان الرجل (وفريقه!) دخل هذه المعركة من اجل فرض السياسة التي يريدها، والتي تختلف جذريا عن السياسة التي يريدها خصوم ترامب.

سيناريوهات هوليودية للمخابرات الاميركية

واذا تذكرنا كوميديات "الثورات الملونة" في اوروبا الشرقية و"الربيع العربي" المشؤوم وشعارات "الشعب يريد... اسقاط النظام" وما اشبه، وهي الكوميديات التي وضعت سيناريوهاتها واخرجتها المخابرات الاميركية بالدرجة الاولى، من الصعب ومن الغباء ان نصدق ان "المعارضة السلمية!" لترامب هي فقط من أجل حق الاجهاض وحقوق المرأة وحق زواج المثليين وحقوق المسلمين، او بسبب إعجاب ترامب بـ"الدكتاتور" الروسي بوتين. (ونذكر هنا ان 17 زعيما سياسيا اوروبيا، احدهم رئيس الجمهورية البلغارية المنتهية ولايته، قد وقعوا رسالة بعثوا بها الى ترامب يطلبون منه فيها عدم رفع العقوبات عن روسيا وعدم التساهل معها! ـ .

"لأمر ما جدع قصير أنفه!"

ان الحملة الراهنة على ترامب تلزم اي باحث موضوعي بالتساؤل عن "لغز" اغتيال جون كينيدي سنة 1963. وقد "عوقبت" عائلة كينيدي، باغتيال شقيقه روبرت ايضا (سنة 1968) ثم اغتيال ابنه "جون جونيور" (سنة 1999). ولتضليل الرأي العام وتضييع التحقيق القضائي، تم اغتيال "القاتل الشيوعي" المزعوم لي اوزوالد وهو في قبضة الشرطة ثم اغتيال قاتل "القاتل" واغتيال جميع الشهود او الاشخاص الذين يمكن ان يفيدوا التحقيق في اغتيال كينيدي.

لقد مضى ما يقرب من 54 سنة على تلك الجريمة التي هزت في حينه اميركا والعالم، والسؤال لا يزال هو هو: من قتل جون كينيدي؟
ان عائلة كينيدي ذاتها قد تخلت عن متابعة "قضيته".
وكل هذا الغموض او (بالعربي الدارج) "الطمطمة" تعني شيئا واحدا: ان "النظام" السائد في اميركا هو الذي قتل جون كينيدي.
وطبعا ان "النظام" لن يكشف نفسه ويكشف من وكيف ولماذا تقرر قتل كينيدي.
فـ"النظام" الاميركي هو عبارة عن آلية مركبة ومعقدة، موحدة، من المؤسسات الرسمية والاجتماعية والاقتصادية، هي التي تقرر الخطوط العريضة والقضايا الاساسية لسياسة الدولة، الداخلية والخارجية. واللون او الانتماء الحزبي والصفات والمفاهيم الشخصية للرئيس هي مسألة ثانوية تؤخذ في الاعتبار، ولكنها ليست هي العنصر المقرر. فالعنصر المقرر هو هذه "الآلية المؤسساتية" وليس الرئيس، او الكونغرس او "مجلس السناتورات"، الذين ينبغي ان يتقيدوا بما يقرره "النظام" او "الآلية المؤسساتية" للدولة.

الصراع بين ’الموكل’ و’الوكيل’ في اميركا

هل يلقى ترامب مصير كينيدي؟

وفي قضية كينيدي، كان "النظام" الاميركي قد قرر غزو كوبا واسقاط حكم كاسترو بعد انتصار الثورة فيها في 1959. وقد وافق كينيدي على ذلك. ونظمت المخابرات والقوات المسلحة الاميركية ما يسمى "غزو خليج الخنازير" في 1961. ولكن الهجوم فشل فشلا ذريعا بفضل المقاومة البطولية للشعب الكوبي بزعامة كاسترو الذي شارك شخصيا  في تلك المعركة واصيب فيها. وبعد فشل الغزو نشبت ازمة  الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا. ووقف العالم على حافة الحرب النووية الشاملة. وتم حل هذه الازمة بالاتفاق الاميركي ـ الروسي، على اساس: سحب الصواريخ النووية الاميركية من تركيا، مقابل سحب الصواريخ النووية السوفياتية من كوبا والتعهد الاميركي بعدم مهاجمة كوبا، او السماح للمهاجرين الكوبيين المعادين للثورة بمهاجمتها.

واضطرت آلية "النظام" للموافقة على هذه الصفقة السياسية ـ العسكرية ـ الامنية مرغمة، ولكنها لم تكن راضية عنها. وقررت الطلب الى المخابرات الاميركية بتنظيم سيناريو "عدوان كوبي" على طائرات وسفن مدنية اميركية يقع فيها ربما مئات الضحايا من المدنيين الاميركيين وغير الاميركيين الابرياء، وتكون تلك حجة للمخابرات والقوات المسلحة الاميركية لشن هجوم كاسح على كوبا وقتل كاسترو وتركيب حكومة كوبية عميلة لاميركا.

كينيدي لم يوقِّع فقتلوه

وقدمت تلك الخطة السرية الى جون كينيدي من اجل التوقيع عليها واخذ دوره فيها كرئيس للولايات المتحدة الاميركية، كما يقتضي الدستور والتشريعات و"المصالح القومية" الاميركية (حفاظا على الدمقراطية!). وطبعا ان كينيدي الذي يتحدر من عائلة مافياوية كان موافقا على الخطة. ولكنه في الوقت نفسه كان:
ـ1ـ لا يثق بامكانية المحافظة على السرية التامة للخطة.
ـ2ـ كان اول رئيس "كاثوليكي" لاميركا، وفي حال فشل الخطة لم يكن يريد ان يتحمل هو وان تتحمل الكتلة المالية ـ المافياوية الكاثوليكية تبعات الفشل، خصوصا وان كوبا هي ايضا كاثوليكية.
ـ3ـ في حال نجاح الخطة كان يريد ان يعزو النجاح له ولكتلته "الكاثوليكية".
وادى رفض كينيدي للتوقيع على الخطة الى تصفيته من قبل آلية "النظام" التي تحكم اميركا. والشيء ذاته يقال عن اغتيال البابا يوحنا بولس الاول بالسم، ثم محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني في 1981، ثم اغتيال الملك فيصل بن عبدالعزيز، ثم ضرب البرجين في نيويورك ثم اغتيال رفيق الحريري في لبنان وغيرها من الجرائم الكبرى، كلها من اخراج "النظام" الاميركي واتباعه.

النزاع بين الرأسمالي ترامب و"النظام" الاميركي
والسؤال الان: ما وجه التعارض بين ترامب و"النظام" الاميركي؟
احاول فيما يلي ان اجيب عن هذا السؤال "على قدر مفهوميتي" وادعو جميع الباحثين الموضوعيين والشرفاء وحتى الاعداء الاذكياء لتحليل هذه النقاط:

ـ1ـ ان "النظام" الاميركي هو آلية مؤسسات مركبة معقدة .
ـ2ـ كل القطاعات الانتاجية والمهنية أصبحت تشكل في اميركا "شبكة" تشبه آلة ضخمة مؤلفة من قطع مختلفة بعضها عن بعض ولكنها كلها تشكل هذه الآلة التي تقوم بوظيفة او عدة وظائف محددة.

ـ3ـ الصفة الاساسية، او الوظيفة الرئيسية الوجودية لهذه الآلية هي انها: "ممثل"، او "وكيل"، او "مفوض مطلق الصلاحية" (كل ضمن مهنته الخاصة) لمجموع الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاميركية. فرئيس البلدية يعمل في وظيفته، وكذلك وزير الخارجية، او جنرال الجيش، او ضابط المخابرات. ولكنهم جميعا يعملون لصالح الرأسمالية الاحتكارية الاميركية من ضمن ما تقرره الآلية النظامية.

ـ4ـ هذه الآلية (السياسية ـ الحقوقية ـ الاعلامية الخ) لـ"النظام" الاميركي، هي "وكيل" حصري للطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاميركية، وهذه "الوكالة" هي "مهنة" خاصة قائمة بذاتها، وهي ـ كالمحامي وموكله ـ تمتلك "استقلالية نسبية" عن موكلها: الطبقة الرأسمالية الاحتكارية. وقد ظهر ذلك جليا في الازمة المالية التي انفجرت في اميركا سنة 2008، حيث ان البنوك والبورصات المتلاعبة التي فجرت بالون الازمة، اضطرت للانتظار شهورا كي تنتهي المماحكات المملة بين الشاب الاسمر الجميل في البيت الابيض والخيول الهرمة في مجلس السيناتورات، قبل الاتفاق على رفع سقف الدين العام بضعة الاف المليارات الدولارات من اجل طباعة كمية اضافية من الدولارات الورقية وتعويم البنوك المتلاعبة على حساب الاقتصاد الفعلي، الاميركي والعالمي.

ـ5ـ ان آلية "النظام" السياسي الاميركي، "وكيل" الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاميركية، قد فشلت فشلا ذريعا في السياسة الخارجية لاميركا، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا: سمحت بظهور اليورو المنافس للدولار، وجعلت الصين تستفيد من العلاقات الاقتصادية والمالية مع اميركا وليس العكس، و"افلتت" روسيا من قبضتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و"أفسحت" لها المجال في ان تنهض من جديد، وفشلت في ايجاد حل "سلمي" للصراع العربي ـ الاسرائيلي لتشديد قبضتها على المنطقة، وفشلت في ادارة المنظمات الارهابية التي اوجدتها، وفشلت في ادارة "الربيع العربي" المشؤوم، و"أفسحت" المجال لروسيا كي تصبح اللاعب الاول في منطقة الشرق الاوسط، وغير ذلك من اشكال الفشل، الذي ينعكس سلبا على الاوضاع الداخلية الاميركية ومصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاميركية.

ـ6ـ ان السيد دونالد ترامب وعائلته هم مقاولون عقاريون كبار ومؤسسون لشركات الفنادق ونواد للقمار في اميركا، اي هم من الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاميركية التي تحولت بغالبيتها الى طبقة خدمات طفيلية.

ترامب ترشح ضد "النظام"

وقد قرر ترامب ان يخوض المعركة الرئاسية ليس كهواية للتسلية مثل هوايته لعب الغولف، بل انه دخل المعركة لانه يبدو تماما ان الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاميركية لم تعد راضية عن "وكيلها": آلية "النظام" السياسي الاميركي المحترف. وقد قالت وسائل الاعلام الاميركية ان عدد الذين حضروا مراسم تنصيب دونالد ترامب 200 الف شخص. في حين قالت اوساط ترامب ان عدد الحضور بلغ مليونين ونصف المليون. ومن الان فصاعدا سيبدأ صراع لا هوادة فيه بين "الموكل" و"الوكيل" في اميركا. وسيكون السؤال الاكبر بعد الان: هل بدأ عصر الاغتيالات، والمجازر، والجنازات الكبرى في اميركا؟!
الله يستر!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل

 

2017-01-24