ارشيف من :آراء وتحليلات
تركيا في الحسـابات الروسية
تنطوي سياسة اردوغان على الكثير من التكتيك والقليل جدا من الأستراتيجيا، ما جعل مساره السياسي منطويا على تناقضات واضحة سواء الداخلي منها او الخارجي. مثلاً في بدايته اتخذ خطوات إيجابية وغير مسبوقة حيال المسألة الكردية. بعد سنة انقلب على خياره لأسباب تكتيكية انتخابية، ما أدى إلى هذه الثورة الكردية العارمة التي ترتقي إلى مستوى حرب أهلية تضرب تركيا بنيرانها.
ما فعله مع سوريا كان قمة الجحود فضلاً عن غياب البصيرة، فقد اعطته سوريا من المزايا والمنافع عبر 51 اتفاقية وبروتوكولًا، ما لم تحصل عليه تركيا من اي حليف في تاريخها الحديث، لقد فعل أردوغان كل ما يؤذي تركيا؛ منها الرقص مع الذئاب، اي داعش قبل أن ينقلب عليها مكرهاً! . وهكذا حتى باتت تركيا بين فكي كماشة، الأكراد من جهة والإرهاب من جهة أخرى.
هذا الواقع خلف مشاكل اقتصادية تكشفها الأرقام التركية: تراجع في العائدات السياحية من 30% خلال العام المنصرم ليلامس 50% بعد مجزرة ليلة رأس السنة الحالية في اسطنبول؛ تراجع معدل النمو الاقتصادي بحسب مكتب الإحصاءات التركي إلى 2% لأول مرة منذ عام 2009. المديونية الخارجية بحسب المكتب المذكور قفزت من 405 مليون دولار عن الربع الأول من عام 2015، إلى 430 مليون دولار أواخر هذا العام. فيما بلغ عدد الشركات المفلسة في العام المنصرم 1896 شركة .ولاشك ان هذه الأرقام قد تجعل الاقتصاد التركي على شفى حفرة من نار وبالأخص إذا اخذنا بتقويم بعض الخبراء الاقتصاديين، احد البارزين منهم مثلاً خالد ربابعة الذي يرى أن النمو الذي حققه الاقتصاد التركي خلال السنوات السابقة كان "فقاعة وليس اسطورة" وجاء بفعل سياسة الخصخصة التي دفعت بحكومة أردوغان لبيع كل شيء في تركيا، "وهو أمر در عليها لفترة محدودة استثمارات خارجية رفعت من نسب النمو ولكنه بالمقابل أمر سيدفع الاقتصاد التركي ثمنه قريباً، إضافة إلى سياسة الاقتراض المنفلتة التي اتبعتها حكومة أردوغان ".
اردوغان المتذاكي
قد يحار البعض في وجهة السياسة الأردوغانية، فهو اطلسي في " أنجرليك" وحليف لروسيا في الباب. والحقيقة أن اكثر ما ينطبق عليه هو وصف "المراهن الفاشل"، يبيع بالرخيص ويشتري بالغالي. يبيع ""داعش" ليشتري وقوف روسيا إلى جانبه في الحيلولة دون توسع الأقليم الكردي غرب الفرات ، ويلوح بالورقة الروسية في وجه امريكا ، حتى تراجع الأخيرة حساباتها في دعم الأكراد ، لقد كان انكسار مشروعه على اسوار القلعة السورية دليلًا على ضعف حساباته مما يدل على انه مضارب مبتدئ في (البورصة السياسية) حيث فرط بما تحقق له من مكاسب سورياً ليشتري بها وعوداً امريكية أشبه بأوراق البنكنوت من غير تغطية !
تركيا اداة في السياسة الدولية
وهذا حين تركته امريكا يقلع أشواكه فيما اوروبا على حالها في رفض انضمامه إلى الاتحاد الأوربي. وهكذا خسر اردوغان حلمه العثماني في الشرق، وظل حلمه الأوروبي على قارعة الطريق!. وكانت قمة الحماقة استعداءه لروسيا إثر حادثة إسقاطه لطائرة السوخوي وقد كلفه ذلك خسارة مليارات الدولارات جراء مقاطعتها لبلاده اقتصادياً. غير ان المدقق سيكتشف بأن هذا التذاكي غير غائب عن لاعب الشطرنج الروسي وقد تصيده يوم انقذه من موت محتم في انقلاب صيف العام الماضي، قبل ذلك لجأ اردوغان الى دبلوماسية سرية يرجو فيها موسكو لوصل ما انقطع مقابل إخراجه من الحفرة التي اوقع نفسه فيها .وهذه النجدة ما كانت لتتم إلا بعد ان ادركت موسكو بسرعة بأن التحرك الانقلابي جاء بمباركة من إدارة اوباما للتخلص من ابتزاز اردوغان لحلفائه الأوروبين مرة بفتح حدوده لتسلل اللاجئين إلى دولها، ومرة بامساكه مقود (داعش) لتصبح أداة بيده مخالفاً بهذا قواعد اللعبة الأمريكية الصنع!. وهنا تبدو عملية اسطنبول الأخيرة نوعا من الرسائل المخابراتية بعثت بها امريكا لكبح هذا ( الشطط التركي) !! .
تركيا الأداة
لا شك بأن روسيا قد حققت اختراقاً، متسللة من الشرخ الذي نشأ بين تركيا وامريكا في عهد إدارة اوباما جراء دعم الأخيرة لحزب العمال الكردستاني. وبهذا الصدد جاء كلام اردوغان رسالة مزدوجة -على طريقته – غزل لروسيا وضغط على امريكا، حيث قال "إذا انضمت تركيا إلى منظمة شنغهاي للتعاون، فإن هذا سيسمح لها بحرية أكبر في العمل". قابلها خطوة روسية جاءت على لسان الجنرال ليونيد إيفاشوف، مدير أكاديمية الدراسات الجيوسياسية في روسيا حيث قال: "إن تحول تركيا إلى منظمة شنغهاي للتعاون هو الخطوة الصحيحة " ؛ وإنه بمجرد أن تبدأ أنقرة في عملية الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، "فإنه ينبغي لها أيضا أن تشرع في عملية الانسحاب من حلف الأطلسي"!. لكن هل يمكن لشهر العسل الروسي التركي الحالي أن يصير تحالفا فعليا؟. الجواب هو "لا" بحسب الخبير في العلوم السياسية في جامعة موسكو الحكومية، كريم هاس، ويعتقد المذكور بأن روسيا تريد استخدام علاقاتها مع تركيا كأداة. ولكن أداة لأي هدف ؟!.. هذا ما يكشف عنه حيث تأمل روسيا ان يقوم اردوغان بما يشبه عملية (البركزيت) - أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- وهنا يرى هاس ان "روسيا تحتاج إلى تركيا في هذه العملية غير المتوقعة بالنسبة للاتحاد الأوروبي والناتو"!. ولو قابلنا هذا الكلام بما صرح به ترامب عن ان حلف الناتو "قد تجاوزه الزمن"!. سيبدو لنا بأن ما يطفو على السطح لا يعكس ما يدور في الخفاء من طبخات تسكن تحت السطح. في هذه الحالة كي لا تضيع الرؤية لا بد من العودة إلى الثوابت؛ منها ان مقود تركيا صناعة امريكية ما يجعل خياراتها محدودة في السقوف العالية وإلا سترفع واشنطن بوجهها الورقة الاقتصادية. وقد فعلتها إدارة اوباما ما ادى لتدهور سعر صرف الليرة التركية 23% أمام الدولار .ومن هنا تصح نظرية هاس بأن روسيا ترى في تركيا أداة وحسب او كما جاء في احدى الصحف التركية بان " رغبة روسيا الحقيقية ليست شهر عسل مع تركيا، بل في إفساد شهر العسل للنظام الأمني الغربي. " .