ارشيف من :آراء وتحليلات

الانتخابات الفرنسية على وقع المتغيرات الإقليمية: هل نرى ’ترامب فرنسياً’ في الإليزيه؟

الانتخابات الفرنسية على وقع المتغيرات الإقليمية: هل نرى ’ترامب فرنسياً’ في الإليزيه؟

انطلقت شرارة "الربيع العربي" من تونس قبل سبع سنوات. كانت المرة الأولى التي يقوم فيھا الفرنسيون بإدراج مصطلح "الربيع العربي" في القاموس الفرنسي "لاروس"، أوائل العام 2012، بعدھا بقليل بدأت الصحف والتلفزة الفرنسية تردد المصطلح من دون وعي كامل لمعناه الدقيق، أما الفرنسيون العاديون، فيعتقد معظمھم أنه "حركة شعبية لديھا مطالب اقتصادية"، و"ربما حركة لديھا مطالب تربوية أيضاً"، وآخرون يرون فيه مجرد "شعارات رفعت من أجل الحرية".

من حالة الربيع الى الحالة السوداوية
فاروق جانتلي، مدير المركز الثقافي الفرنسي (الآوديسا) في ستراسبورغ، وفي إطار محاولات فھم ما آلت إليه الأوضاع الراھنة في العالم العربي، وانعكاسات "الربيع العربي" على مجمل العلاقات والسياسات الأوروبية، يرى أن "العالم راقب بدھشة ثورة تونس، كحراك سلمي لم يرفع فيه السلاح أبداً، وأُعجب بالانتقال السلس الھادئ من سلطة إلى أخرى، وكان صداه كبيراً وعميقاً في الأوساط الأوروبية".
لكن جانتلي ينتقد الأوضاع التي سادت في ليبيا وسوريا واليمن ومصر بالقول: "الحديث عن تغيير اجتماعي جذري، الذي سمعناه في البداية لم يعد كما كان، فالسياق الذي تعيشه ھذه البلدان اليوم منذ أواخر العام 2011، حيث البدايات الجيدة والنھايات البائسة، ساھم في حرف مسار التفكير لدى المثقفين الفرنسيين، خاصة بعد التفجيرات الإرھابية التي وقعت في قلب باريس، والتي استهدفت الاستقرار والأمن وقيم الجمھورية، والتي فسّرھا البعض بأنھا ھي سبب أو نتيجة لھذا الحراك المنفلت الذي بدأ يطال سلامتھم".
أما كريستيان آنغوار، الباحث الفرنسي في قضايا الشرق، فيطلق على ھذه الحركة اسم "الحركة العربية المتحمسة للعيش بسلام وحرية". وبرأي كثيرين فإن سرقة الثورات من قبل "التكفيريين"، وسيادة خطاب ثقافي "تكفيري" معادٍ، أسس لحالة سوداوية دفعت قسما من الفرنسيين إلى تفضيل بقاء الديكتاتوريات والقبول بسياساتھا الراھنة باعتبارها أسهل من المجموعات "الجھادية"، أو الوقوف على الحياد في الأقل.
الكاتب السياسي جان بيير شيفينمو يقول في أمسية خاصة عقدت في ستراسبورغ،"القضية إذاً، تنحصر بالثقة الضائعة الآن في حالة" الربيع العربي"، فلم يعد ھناك مدافعون عنه، إن شباب العرب، الذين عانوا القھر كثيراً، والذين أعجبوا بالحلم الأوروبي والأميركي خاصة في مصر، تولوا زمام المبادرة مع أول فرصة سنحت لھم، لكنھم سرعان ما تلقوا الضربات تلو الأخرى، ثم سيطر "الإسلاميون" على الحراك، فنأت أوروبا بنفسھا".
لكن ذلك لم يمنع الهجمات الإرهابية من الانتقال إلى البلدان الأوروبية، والتي كانت فيها الحصة الكبرى لفرنسا، فكان نتيجتها صعود اليمين المتطرف في معظم البلدان الأوروبية، الذي استغل مشاعر الذعر من "الإسلاموفوبيا" لتحقيق أهداف سياسية، وخير دليل على ذلك ما تشهده الانتخابات الفرنسية مستغلة أزمات العالم العربي وربيعه الدامي، وخاصة في سوريا.

الانتخابات الفرنسية على وقع المتغيرات الإقليمية: هل نرى ’ترامب فرنسياً’ في الإليزيه؟

 

فيون .. وفضيحة الوظائف الوهمية
فضمن هذا السياق جاءت زيارة فرنسوا فيون المرشح الرئاسي الفرنسي خلال المراحل التمھيدية لحملته إلى العراق وأربيل  ولبنان، والتقى الكثير من المسؤولين عن الطوائف المسيحية، وزار سورية برغم أن باريس تجد نفسھا اليوم مھمشة في الملف السوري الذي انتقلت دفّة إدارته إلى روسيا وتركيا وإيران، فيما الشريك الأميركي غائب اليوم بسبب المرحلة الانتقالية بين رئيس وافد وآخر مغادر.
في سورية نجد فيون يبتعد عن الموقف الرسمي الفرنسي الذي سارت عليه باريس منذ اندلاع الثورة السورية، يقول: "إن مبدأ الواقعية يجب أن يتحكم بسياسة فرنسا الخارجية، وان أولى أولوياتھا في الشرق الأوسط ھي محاربة إرھاب "داعش"، وبالتالي عليھا أن تلتزم السياسة التي تتماشى مع ھذا المبدأ"،  ويذھب فيون إلى حد الدعوة لإقامة قناة اتصال دبلوماسية مع النظام السوري، متھماً الحكومة بسلوك طريق "لا يفضي إلى شيء"، من خلال دعمھا للمعارضة ومطالبتھا برحيل الرئيس الأسد. واعتبر فيون في إحدى مناظرات مرشحي اليمين أنه: "إذا كان الرئيس الأسد ما زال في موقعه، فإنه يتمتع بدعم شعبي، وإذا سقط نظامه فإن ذلك سيشكل خطرا على الأقليات المسيحية في سوريا".
من هنا باتت النظرة العامة الى موقف فيون من الملف السوري على أنه مغاير تماما للموقف الفرنسي الثابت منذ ست سنوات، وأنه يعد لتغيير جذري فيه ولا يجد غضاضة في التعامل مع الرئيس الأسد لمحاربة "داعش". ولكن فيون سرعان ما استدرك الأمر وبدأ العمل على تبديد ھذا الانطباع أو تصحيحه، وتوضيح موقفه شخصياً ووضع النقاط على الحروف في حديث للقناة الإخبارية الفرنسية "بي إف إم"، أقول فقط: "إن الرئيس بشار الأسد يحظى بدعم قسم من الشعب، وان الدبلوماسية الفرنسية والغربية أقصتا نفسيھما من النزاع السوري برفضھما فكرة التحدث إليه".
فرنسوا فيون بات التعاطي معه جارياً على أساس أنه الرئيس المقبل لفرنسا، ووصوله الى الإليزيه بات شبه مؤكد لعدة اعتبارات، منها:
- حجم التأييد الذي ناله في صفوف اليمين وبفارق شاسع عن منافسه آلان جوبيه.
- الانقسام العميق في الحزب الاشتراكي الى درجة أن مرشح الحزب أيًا يكن لن يكون قادرا على تخطي الجولة الأولى.
- عدم تقبّل المزاج الفرنسي العام فكرة وصول اليمين المتطرف ومارين لوبن الى قصر الإليزيه.
لكن ذلك لم يعد ينفع فرنسوا فيون، فما الذي تغير؟
كان وصول مرشح اليمين فرنسوا فيون الى قصر الإليزيه في الربيع المقبل أمراً محسوماً، لكن، تغيّر الوضع، إذ جاءت نتائج آخر استطلاع للرأي لتبيّن أن فيون لم يعد ضامناً تأھله للمرحلة الثانية من الانتخابات، ولا فوزه بالرئاسة في حال تخطيه عقبة الجولة الأولى، والسبب فضيحة "الوظائف الوھمية" التي فجرتھا صحيفة "لو كنار أونشينيه" الساخرة التي نشرت تحقيقا كشفت فيه لأول مرة أن بينيلوبي فيون، زوجة المرشح اليميني، شغلت لسنوات وظيفة "مساعدة برلمانية"  لزوجھا وللنائب الذي حلّ محله في دائرته الانتخابية عندما أصبح رئيسا للحكومة، وأنھا حصلت مقابل ذلك على أكثر من 400 ألف يورو.
كذلك كشفت الصحيفة أنھا حصلت على 100 ألف يورو من مجلة أدبية تعود ملكيتھا لأحد أثرياء اليمين المقربين من زوجھا، ولم تكتف الصحيفة الساخرة بذلك، بل صححت في عددھا الصادر مؤخرا أرقامھا ليتبين أن بينيلوبي فيون جمعت ما لا يقل عن مليون يورو من المصدرين المذكورين دون أن يأتي أحد بالدليل القاطع على أنھا قامت بعمل فعلي. وزادت "لو كنار أونشينيه" أن إحدى بنات فيون وأحد أبنائه استفادا أيضا من أموال مجلس الشيوخ عندما كان والدھما عضوا فيه، وأن ما حصلا عليه وھما طالبان يزيد على 84 ألف يورو.
وبالطبع لم ينجح فيون في تقديم تفسيرات مقنعة عندما تم استجوابه واستجواب زوجته مؤخرا طيلة ست ساعات في مكاتب الشرطة المالية المكلفة التحقيق، كذلك، تم تفتيش مكتبه بحثا عن إثباتات وأدلة من شأنھا جلاء ھذه المسألة التي تكاد تطيح بحظوظ اليمين باستعادة السلطة ورئاسة الجمھورية، وبعد أن اعتبر فيون في الأيام الأولى أن العملية كلھا تستھدف "شرفه" ومنعه من الاستمرار في ترشحه، ذھب إلى اتھام السلطة الاشتراكية بالوقوف وراء ھذه المؤامرة وبالقيام بـ"عملية انقلابية مؤسساتية"، وأن الھدف من وراء الھجوم عليه ھو سلب الانتخابات الرئاسية من الفرنسيين عن طريق الإطاحة بمرشح اليمين، ولكن مشكلة مرشح اليمين أن التفسيرات التي قدمھا لتبرير وضع زوجته لم تكن مقنعة، إذ إن 76 % من الفرنسيين لا يرون أن دفاعه كان مقنعاً، وهنا برزت تساؤلات كثيرة حول قدرة فيون على الاستمرار مرشحاً لليمين، وذلك قبل أقل من ثلاثة أشھر على الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية.

الانتخابات الفرنسية على وقع المتغيرات الإقليمية: هل نرى ’ترامب فرنسياً’ في الإليزيه؟


في الواقع، تشھد حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية تطورات غير محسوبة مع خروج مرشحين أساسيين من السباق، وتھاوت الشخصيات التي كانت تحتل المشھد السياسي منذ عقود الواحدة تلو الاخرى خلال الانتخابات التمھيدية، فقد شطبت الانتخابات التمھيدية نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه من المعادلة بعدما كان الأخير الأوفر حظاً طوال أشھر، وفي الحزب الاشتراكي الضعيف والمنقسم، دفع رئيس الوزراء السابق مانويل فالس الذي كان أيضاً متقدما بعد انسحاب الرئيس فرنسوا ھولاند، ثمن رفض السياسة الحكومية التي جسدھا لعامين.
والواقع أن جميع المرشحين يعلنون قطيعة مع "الوصفات السياسية القديمة" ويتباھون ببرامجھم "الراديكالية" و"المجددة" و"المناھضة للنظام"، وفي مقدم ھؤلاء نجم الحملة الصاعد إيمانويل ماكرون، الذي يخوض مستقلا انتخابات للمرة الأولى تحت شعار "الثورة"، وكتب مرشح اليسار المتطرف جان لوك ميلانشون في صفحته عبر "فايسبوك" الأحد الماضي: "لم يسبق أن شعرت في حياتي السياسية بھذا القدر من الاستياء".
ويشھد المعلقون والمحللون من كل التيارات حملة سياسية شرسة يطغى عليھا تطلع الى وجوه جديدة، وبعد "بريكست" وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، تحولت ھذه الانتخابات التي يرصدھا الخارج الى "رقص على بركان"، بحسب وصف صحيفة "لو موند". فهل سنرى تكراراً للترامبية الأمريكية في الإليزيه الفرنسي؟ ربما، فلنراقب.

 

2017-02-07