ارشيف من :آراء وتحليلات
رسالة الاستيطان: لا مكان للفلسطينيين في فلسطين
لم تأت مصادقة الكنيست بالقراءتين الثانية والثالثة، على شرعنة مصادرة الأراضي الفلسطينية، إلا إمتداداً لسياسة التوسع الاستيطاني الزاحف، ولكن هذه المرة بصيغة أكثر عدوانية تجاوزت فيها "اسرائيل" قيوداً إلتزمت بها لسنوات طويلة.
القيود التي تجاوزها هذا القانون، المعروف بـ"قانون التسوية"، تفرضها قوانين دولية محدَّدة، بل إن قوانين الاحتلال نفسه تفرض الإلتزام بها. ما فرض على معسكر اليمين المبادرة لشرعنة المستوطنات المقامة على أراض فلسطينية خاصة، عبر سن قانون جديد. وهو ما لم يحدث طوال فترة الاستيطان في الضفة الغربية منذ إحتلالها عام 1967.
مع ذلك، ما زال أمام هذا القانون، الذي حظي بأغلبية 60 عضو كنيست مقابل معارضة 52، محطة حاسمة، سيكون لها كلمة الفصل، وتتمثل بموقف المحكمة العليا التي تملك صلاحية إلغائه. ويسود تقدير في الساحة الإسرائيلية وخارجها أن المحكمة العليا ستبادر الى إلغائه في حال تم الاستئناف عليه، كونه يسيء الى سمعة "إسرائيل" الدولية..
من الواضح أنه في حال ألغت المحكمة العليا القانون، سيؤدي ذلك الى فتح سجال حاد مع معسكر اليمين، الذي سيحاول تقييدها لاحقا عبر خطوات قانونية تسلبها صلاحية التدخل في مثل هذه القوانين.. اما بخصوص مدى نجاح هذه المحاولة فهذا بحث اخر.
في المقابل، ينبغي التأكيد على حقيقة أن اداء المحكمة العليا كغيرها من مؤسسات الكيان الاسرائيلي، ينطلق من حقيقة أن قضاتها صهاينة قبل أن يكونوا مهنيين. ولكن تشخيص مصلحة "إسرائيل" قد تختلف من مؤسسة لأخرى. بل إن داخل المحكمة آراء متعارضة كما هو الحال مع باقي مؤسسات الكيان. وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى أن المحكمة لم تحل دون بناء المستوطنات منذ ما بعد إحتلال الضفة، ولكنها حرصت على أن يتم ذلك وفق آلية حدَّدتها قوانين الاحتلال، لذلك لم تعترض على الاستيطان عندما بررته الحكومة الاسرائيلية بـ "أغراض عسكرية"، وعندما بادرت الحكومة إلى تصنيف مساحات واسعة جداً من الضفة على أنها "أملاك دولة"، حوّلت أغلبيتها لاحقاً الى المستوطنات.
في كل الاحوال، سواء بادرت المحكمة الى إلغاء القانون أم لا، فإن ذلك لا يقدح بالدلالات السياسية التي ينطوي عليها سن مثل هذا القانون.
الواضح أن شرعنة مصادرة الاراضي الفلسطينية الخاصة، هي امتداد لسياسة التوسع الاستيطاني التي تعتمدها "إسرائيل" في الضفة الغربية. وترجمة لأولويات تتبناها حكومة نتنياهو التي ترى أن البيئة الاقليمية والدولية تشكل ظرفا مثالياً لمثل هذا الخيار.
من المتعذر الفصل بين هذه الخطوة الاستيطانية، وبين إنتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية. مع ذلك، تؤكد الهجمة الاستيطانية الإسرائيلية، تكتيك تل أبيب الدائم باستغلال المستجدات لمصلحة أولوية الاستيطان. فهو يمثّل هدفاً قائماً بذاته، وترجمة لمخطط فرض الوقائع بهدف دفع الفلسطينيين للبحث عن حلول خارج نطاق فلسطين.
في السياق، تأتي هذه الخطوة بالتزامن مع إخلاء مستوطنة عمونا، بناء على قرار ملزم من المحكمة العليا بعد تسويف هذه القضية لسنوات.. وأراد اليمين بذلك أن يُحصن بقية المستوطنات على أراض فلسطينية خاصة، عبر جعلها قانونية.. وفي الوقت نفسه يعزز مكانته لدى جمهور المستوطنين. لكنه يعكس ايضا قوة النزعة الاستيطانية في اليمين الإسرائيلي..
على مستوى الرسائل، وجه هذا القانون رسالة حادة الى الطرف الفلسطيني التسووي، حدَّد فيه أن سقف طموحات السلطة، ينبغي أن يكون دون هذا السقف الاستيطاني. ويعكس، مع ما سبقه من خطوات استيطانية، حقيقة أن"اسرائيل" لم تعد ترى في تسوية القضية الفلسطينية مدخلا إلى العالم العربي.. خاصة في ظل إنفتاح "الاعتدال العربي" عليها. وترجمت ذلك عبر طرح نتنياهو لمؤتمر اقليمي بين "إسرائيل" والدول العربية (الخليجية)، كمدخل لإمكانية ما تتصل بالقضايا العالقة مع السلطة الفلسطينية.
على المستوى الاميركي، كان واضحا العلاقة بين الخطوات الاستيطانية المتوالية وبين تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة. مع أن الانطباع السائد هو أن البيت الابيض يرى أن من المجدي تجميد كل هذه الخطوات إلى ما بعد لقاء نتنياهو بترامب منتصف الشهر الجاري.
ومع أن الظرف الذي شجع اليمين الاسرائيلي على هذه الاندفاعة الاستيطانية، هو وصول ترامب الى البيت الابيض، لكن الاخير اضطر في المقابل، الى محاولة الحد من هذه الاندفاعة عندما اعتبر أن الاستيطان لا يساعد على التسوية.. وهو بذلك استخدم أقل تعبير يوصف من خلاله مفاعيل الاستيطان، فلم يعتبره غير شرعي، ولا عقبة أمام التسوية.. وهو ما قد يشجع اليمين الاسرائيلي المتطرف على خطوات أكثر تطرفا..
مع ذلك، لا تقتصر خلفيات تزخيم التوسع الاستيطاني لحكومة نتنياهو، على الابعاد الايديولوجية. ولا على الزخم الذي تلقته "إسرائيل" بفعل انتخاب ترامب، على المسار الفلسطيني. بل هو ايضا نتيجة التنافس داخل معسكر اليمين. ففي هذه المرحلة بالذات يشدد رئيس حزب البيت اليهودي، اليميني المتطرف، نفتالي بينت، ضغوطه على نتنياهو الذي بسبب قلقه على مستقبله السياسي، وإمكانية ترجمة الملفات القضائية المفتوحة بوجهه، إلى ضغوط للاستقالة كما حصل مع اولمرت عام 2009، يكاد لا ينطق بكلمة "لا" إزاء أي طرح استيطاني.
وتفاديا للوقوع في الشبهة، ويبدو نتنياهو كما لو أنه ضد الاستيطان، فقد أوضح نتنياهو قبل أيام مفهومه للدولة الفلسطينية التي يقصدها، بالقول "ما أنا مستعد لإعطائه للفلسطينيين هو ليس دولة تماما مع كل الصلاحيات، وإنما دولة ناقصة". ومع أن نتنياهو لم يكشف عن أمر مفاجئ، لكنه لفت إلى أن من يعارض موقفه من اليمين الإسرائيلي لا يفهم حقيقة موقفه من إقامة الدولة الفلسطينية، ولو أصغوا بالتفصيل إلى موقفه لما عارضه أحد منهم، موضحاً أنه "لهذا السبب لا يوافق الفلسطينيون" على طرحه. وهكذا يؤكد نتنياهو أيضا، بهذه المقولة أن الزحف الاستيطاني يجسد من حيث المبدأ توجهه الايديولوجي، واذا ما حصل تباين مع بعض رموز اليمين المتطرف، فهو من باب تشخيص الظرف الملائم والتكتيك الاصح.
على المستوى النظري، كان يفترض أن يثير سن مثل هذا القانون المخاوف لدى تل أبيب، من ردود فعل دولية أو حتى من الشارع الفلسطيني. لكن يبدو أن الرهان هو على الدعم الاميركي لكبح أي خطوات دولية فعالة.. وعلى المستوى الفلسطيني، ما زال الرهان على خضوع السلطة للمعادلة السائدة على مستوى التنسيق الامني.. الذي يحول دون أي تحرك شعبي فلسطيني واسع.