ارشيف من :آراء وتحليلات
نعم... هؤلاء الساسة لا يليقون بلبنان
مما لا شك فيه أن هناك علاقة جدلية بين الحياة السياسية في مجتمع ما وبين درجة تطوره، وعليه فالحياة السياسية في المبدأ يفترض أن تكون صورةً عن مدى تطور هذا المجتمع. لكن لبنان يكسر هذه القاعدة. حيث مجتمعه متقدم على الحياة السياسية فيه بأشواط. وهذا لا ادعاء فيه أو مبالغات، حيث إن بعض أهم المؤشرات تتكفل بإظهار الحقيقة، في مقدمتها حيوية مجتمعه الأهلي الذي يعتبر وفق المنظمات الدولية الأنشط بين دول الشرق الأوسط. ولعلّ تنامي هذا النشاط في تنوعاته وأشكاله جاء في أغلب الأحيان تعويضاً عن الوهن الذي أصاب معظم الأحزاب السياسية اللبنانية، لذلك نرى أن الحيّز الأكبر من المواجهة مع الطبقة الحاكمة تتولاه منظمات المجتمع المدني. ومن تلك المؤشرات تزايد نسبة التعليم في لبنان بالقياس الى محيطه العربي، وقد خرجت منه نخب ممتازة وفقاً للمقاييس العصرية، ما مكّنه على سبيل المثال لا الحصر من الاستحواذ على أهم المراكز الطبية في الشرق الأوسط، وأهم الشركات الهندسية من تنفيذ أو استشارات تحتل مرتبة متقدمة وفق التصنيفات الدولية. فضلاً عن شهرة مؤسساته الصحفية، ووفرة في دور النشر -700- أنتجت أكثر من 30% من مجمل إنتاج الوطن العربي. ومنها أيضاً تبوؤ لبنانيين كثر مواقع قيادية في عالم الإغتراب وفي كل المجالات العلمية والسياسية والثقافية، ولعل هذا التمايز، إضافةً للنشاط الخلاق للإنسان اللبناني جعله أهم مصدر للدخل القومي لبلده، حيث تبلغ تحويلات اللبنانيين من الخارج حوالي 8 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل 20% من الناتج المحلي، وهذا يشكل ضعف الدخل من السياحة في تركيا التي تحتل المرتبة السادسة عالميا في الجذب السياحي وذلك قبل الأزمات الداخلية التي عصفت بها مؤخراً ملحقةً خسائر في هذا القطاع! ومن المؤكد أن هذه التحويلات قد امتصت بنسبة كبيرة من تداعيات تردي الوضع الاقتصادي، وتفشي فساد الطبقة السياسية بما يتسببه من هدر لموارد الدولة وعجز، وتضخّم في الدين، وبالتبعية زيادة في الضرائب تثقل كاهل المواطنين.
المفارقة!
هذا الشعب اللبناني مع كل ما ذكرنا يقع تحت سطوة طبقة حاكمة أقل منه سوية لمن يعرف سيرة العديد من أصحابها. أقل في العلم وفي الرؤية، وفي الذكاء بمنحاه القيمي البنّاء، وليس الشيطاني الهدّام، فهي في هذا الأخير صاحبة مدرسة أو مدارس! في ابتداع أقنية أو مخارج لسرقة موارد البلد. هذا الشعب اللبناني الذي أبدع في الآداب والفنون، هذا الشعب اللبناني الذي خرجت من صفوفه مقاومة أبدعت وبعبقرية غير مسبوقة في هزيمة جيش مدجج هو الأول في المنطقة، ونعني جيش العدو الإسرائيلي. هذا الشعب يستحق حكاماً في مستواه، ونحن هنا نتحدث عن طبقة حاكمة بطبيعة نمطية، غير متناسين بعض الظواهر الاستثنائية من أشخاص مرّوا على الحياة السياسية اللبنانية فكانوا بين مكبل أو محاصر كما حصل على سبيل المثال مع الدكتور سليم الحص، والرهط القليل من رفاقه، حيث النظام هنا طاحونةٌ لا يعجزها أفراد مهما ارتقت مزاياهم. ولعلنا هنا نضع يدنا على أحد أهم مفاصل الأزمة وهي أن التيارات والقوى الحزبية المضادة لهذه الحالة الشاذة ما زالت مفككة، لم تصل قياداتها إلى سويةٍ من النضج تتجاوز فيها الأنا للتكتل على مشروع الحد الأدنى، ولعل علّة العلل أن معظمهم قد ترهل، أو تجاوز تاريخ الصلاحية من حيث مواكبة ما استجد من متغيرات اجتماعية، والأخطر هم الطارئون الذين يشكلّون حالات احتجاجية غير جذرية بقدر ما هم مستنسخون من بيئة الطبقة الحاكمة التي كانوا من (رعاياها!) يوماً من الأيام !!!، حتى أطلق الناس عليهم لقب: (صغار البكوات) ! وبين الأصلاء والطارئين تبدت العزلة عن الناس، وعدم اغتنام الفرص للإحاطة بهم يوم تحركت الجموع تلقائياً وملأت الشوارع احتجاجاً على عجز السلطة في معالجة تكدس النفايات. كانت فرصة تاريخية لإسقاط النظام الطائفي يومها، واسترداد وثيقة الطائف ودستورها، وهما ينصان صراحة وفي اكثر من بند وفقرة على الغاء الطائفية وعلى انتخاب مجلس نيابي "على اساس وطني لا طائفي". ومن نافل القول إنها كانت فرصة تتزاحم فيها السبل ليكون أمر قانون الانتخابات بأيدي الشعب، وليس كما هي الحال الآن حيث هو بين أيدي من ينطبق عليهم قول المتنبي : "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"!!.
أسباب موضوعية
المفارقة ان الجهتين الطبقة الحاكمة والقوى المضادة تتذرع بالطائفية كلٌ على طريقته وبما يخدم أغراضه، الحاكمون يتسلحون بها كممر يستمدون منها شرعيتهم، أو لتبرير عقم مساعي الإصلاح تحت مقولة "الأولى إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص"! فيما التيارات المضادة تتذرع بالنظام الطائفي ونفوذ أصحابه ووسائله الزبائنية كسدٍّ في وجهها!، بل وبالأحرى تبرير عجزها في اختراقه. والموضوعية تقتضي أن لا نسقط هذه الأبعاد المكونة لنفوذ الطبقة الحاكمة، لكنها تقتضي أن نضع قبالتها حقائق معاكسة لها، وهي ان تفليسة الاقتصاد اللبناني المثقل بالديون والهدر ما عاد يسمح ان يكون خادماً مطواعاً لرشو الناس كما في السابق ببعض التنفيعات!، كما وأن اعتماد شرائح من اللبنانيين على مال الاغتراب مباشرة أو مداورة عبر مشاريع أصحابه كلها أعطت استقلالية اقتصادية أضعفت من الشق الزبائني الذي يشد الناس إلى الطبقة السياسية، ومن ناحية أخرى فإن قوالب الطائفية كإحدى الحيل لشد الناس إلى الطبقة المذكورة قد أخذ يدب الصدأ فيها بحكم نواميس الطبيعة، فكيف حينما تجتمع معها الأسباب الموضوعية التي يصبح من الصعب ان تصمد معها قوالب الطائفية بمعناها السياسي والاجتماعي، فقد اتاح انتشار الثقافة والتعليم وتطور الاتصال آفاقاً واسعة طارحاً أوجه المقارنة، والأسئلة معها، كما إن عالم الأعمال والاغتراب طرح علاقات موضوعية تحكم علاقات اللبنانين فيما بينهم على أساس قيم الإنتاج والمصالح المتبادلة.
كل ما سبق مجتمعاً أسقط الكثير من مداميك الحواجز الطائفية بالمعنى النفسي وبالمعنى القيمي.. وإذا أضفنا لما سبق، الهمّ من السفينة اللبنانية المثقوبة التي تقل الجميع!، والأسئلة الكبرى عن المصير مع مديونية تتزايد سنةً بعد أخرى ومع عجز النظام على الوفاء بحاجات الناس البسيطة من ماء وكهرباء وبيئة نظيفة وصحة، لوجدنا عصبية وطنية لبنانية أخذت ملامحها بالتشكل، وأن المجتمع البناني أخذ ينسجم مع نفسه على أسس موضوعية وليس شكلية، وبالتالي فإن أي دراسة له على قواعد علم الإجتماع الخلدوني ستعطي نتائج مضللة بعد اليوم. لمن يتشكك نقول: دقّقوا في إنتخابات 2009 النيابية، ليس في المقترعين مع أن نسبتهم لم تخترق حاجز 50% في أحسن الحالات! بالرغم من التجييش والشحن والمال السياسي!، بل في نسبة الناخببين الصامتين الممتنعين عن الإقتراع، وفي الناخبين الساخطين أصحاب الأوراق البيضاء أو رسائل السخط فيما تعتبر أوراقاً ملغية وهي بعشرات الألاف !!.والأرقام في الانتخابات البلدية 2006 كانت صادمة لقوى سياسية ظلت مهيمنة حتى وقت قريب!! نعم إن المجتمع اللبناني يتغير، وهذا يخيف أرباب الطوائف وتجّارها. وبالتالي فإن الخوف الوحيد أن يلجأ هؤلاء لاختلاق فتنة طائفية متى لاحت لهم الفرصة. فحذار.
(*) كاتب لبناني