حلمٌ مضى جسدًا في كتاب المقاومة، كعابرٍ ترك وراءه وصيّته الأساس لتحفظها الأجيال بأشفار العيون.. هو الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي، قامةٌ تتسامى رفعة وإباء، تركت في طيات الزمن سطورًا من المجد والعزة والكرامة.. قبسٌ من أنوار المقاومة.. ونار على أعدائها. أدرك بوعي الملتزم مسؤوليته تجاه دينه ودنياه ووطنه. كانت فلسطين فصلا من رواية السيد. ولو حاولنا تعداد المحطات المضيئة في حياة السيد لما انتهينا.

ابن عمّه وأخو زوجته، السيد هاني الموسوي يستذكر في حديث لـ"العهد" محطات في حياة القائد. كان صديق طفولته، ثم توثقت الصداقة برابط المصاهرة... بكثير من الحنين يحدّث السيد هاني عن الأمين العام. "أمور كثيرة ساهمت في تكريسه قائدا عظيماً، كان جريئاً في مواقفه، شجاعاً في إبداء رأيه، والى جانب ذلك كان لحوحاً في الوصول الى أهدافه، متعلّقاً بالهدف الاسمى.. فلسطين"، يروي السيّد هاني.

الصديق الودود يحكي عن تعلّق السيد "بالشهيد السيد محمد باقر الصدر، الذي بادله الحب والتقدير بعدما وجده شاباً واعيًا متعطشاً لمعرفة الدين وأحكامه، وظمآن للعلم". يضيف "بعد تخرجه من الحوزة الدينية في صور انتقل السيد عباس الى العراق ليتابع دراسته في كنف السيد الصدر وفقاً لرغبة الأخير، وقد وجد السيد صدر في السيد عباس شخصية مميزة، فخصه بمعاملة فريدة، وقربه إليه فاتحاً له كل أبواب علمه".

الشهيد السيد عباس الموسوي وزوجته الشهيدة أم ياسر

يشير السيد هاني الى زيارات السيد عباس الى لبنان. يقول "كان يأتي في المناسبات الدينية كشهر محرم وشهر رمضان بهدف التبليغ، آنذاك لم تكن المعارف أو العلوم الدينية منتشرة بين الناس". ابن منطقة البقاع الذي عايش حرمانها كانت له مكانة خاصة بين أهلها. كان لهم المثل الصالح، فساهم بتثقيف "مجموعات مغلقة" تنوب عنه في الدور التبليغي في غيابه"، بحسب السيد هاني. ويضيف "كان السيد عباس يعود بين الفينة والأخرى الى الوطن ليشبع ناظريه من قسمات وجوه أحبها، ويختزن زاداً لمستقبل أراده ذاخراً بتضحية وعطاء يكبران على حب الحياة".

يتابع "كان السيد دؤوباً في عمله، لا يستسلم للتعب بسهولة. أمّا سيارته، منزله الثاني التي طالما كانت ملجأ لنومه أثناء تنقلاته من الجنوب الى البقاع أو الشمال أو الشام. كان في حركة مستمرة شعارها العطاء، أفنى شبابه من أجل القضية الفلسطينية، بكل دقيقة من عمره تابعها ورفع لواءها بين العامّة".

لا ينسى السيد هاني رفيقة درب القائد. تلك السيدة التي تعلق بها السيد هاني وكانت أقرب إليه من أشقائه كافة "محبوبة العائلة، طيبة القلب، وأجمل البنات شكلا ومضمونا، ولان الطيبين للطيبات ألف الله بين سهام الموسوي والسيد عباس وتمت الخطوبة بحضور عدد من العلماء. منذ ذلك الوقت لم يعد السيد وحيداً في سفره. رافقته الى العراق ابنة عمه سهام الموسوي التي أصبحت السيدة "أم ياسر" بعد زواجهما، وكان لها من العمر أربعة عشر عاماً".

بحسب شقيق أم ياسر، العلاقة بين الشهيد والشهيدة كانت علاقة رسالية، يقول "لم أرَ أسعد منهما قط". يستذكر تضحيات أخته وتفانيها مع زوجها الذي كان دائم الغياب "فكانت تغطي مكانه وتتحمل كامل المسؤولية، وكانت قنوعة، فلم يسمعها تشتكي من قسوة الظروف أو من عمل زوجها الخطر، بل وهبت حياتها لجهاده قربة الى الله".

الشهيد السيد عباس الموسوي وعائلته

الكلام عن "أم ياسر" لا ينتهي، هي التي "أثبتت وعيها وجداراتها برفقة السيد، كانت العين الساهرة عليه، واليد التي تقوم بترتيب أموره، وكان السيد يبادلها الاحترام، وينظر بعين التقدير إلى صبرها". بل وكان داعماً لها، حتى تمكنت رغم المسؤوليات ان تبني حوزة السيدة الزهراء (ع) للاخوات الى جانب حوزة الامام المنتظر(عج) التي اسسها وبناها السيد عباس الموسوي للاخوة عند عودته قصرا من العراق".

كان للحوزتين الاثر الكبير في إحياء ركائز الدين في البقاع، حيث شهدت مدينة بعلبك باكورة العطاء الديني والجهادي الذي توسع الى مناطق عدة فيما بعد.

في إحدى الأيام -يروي السيد هاني- أعربت للسيد عباس الموسوي عن قلقي من يأس الناس والاوضاع المتردية، ورغم تشاؤمي رد مطمئناً بكلام الواثق بالله "العمامة والشهادة ستنتصران". يضيف "بالفعل أحس أن شهادته ستكون محطة استنهاض للجماهير، وفعلا شكلت شهادت السيد الموسوي ثورة على الظلم".

عين العدو كانت تترصد الأمين العام لحزب الله، وكنا نمازحه دوماً بالقول "إن كنت بعت نفسك لله فلا تعرض مرافقيك للخطر، فيجيبنا دائما بأنه يقوم بما يتوجب عليه ويترك تدبير الأمور الى الله سبحانه وتعالى"، يقول السيد هاني.

الأمين العام الذي انتُخب لهذه المسؤولية في أيار 1991، كان شديد الحساسية حيال المستضعفين، والمقاومين. هو الذي أكد بعد انتخابه أن هذا الاختيار "هو تكليف وليس تشريف"، وكان دائم القلق من أن يشغله الموقع عن معايشة هموم المقاومين. سرعان ما تحققت أمنية السيّد، وحدسه الدائم بأن "أم ياسر" ستكون رفيقته في تحقيق حلمه. هذا الحلم الذي كان يردده بصوت شجي رافعاً يديه الى السماء "أُطالبكَ أن ترزقني شهادةً مُطَهرَةً أنا اخترتُها لنفسي كفارةً عن ذنبي، شهادةً قلّ نظيرُها يتفتتُ فيها جسدي".. فكان الله سبحانه وتعالى للسيّد سميعاً مجيباً.