ارشيف من :آراء وتحليلات

نفير عاجل للمقاومة

 نفير عاجل للمقاومة

المتأمل للصراعات السياسية لا بد وان يلحظ أنها لا تحل وإنما تخضع لمفهوم الإدارة، وإدارة الصراعات لها غير طريقة، تارة عبر العصا وطورًا عبر الجزرة، وتارة عن طريق المساومات، والهدف الرئيس هو المصالح، وتقاس كفاءة الأسلوب بالأقل تكلفة والأكثر جلباً للمصلحة.
هذا في السياسة، وفي المبادئ والأيدلوجيات، تكون المعارك صفرية لا بد وان تنتهي بانتصار طرف على الآخر، انتصاراً شاملاً وهو ما يعرف بالصراع الوجودي، وهذا لا يمنع من وجود إدارة مرحلية للصراع.

 نفير عاجل للمقاومة


ما يهمنا هو أن نشخّص الصراعات تشخيصاً سليماً، فلا نقع في خطيئة التشخيص غير المتسق مع الواقع لأنه يقود إلى نتائج كارثية.
فالصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجودي وعندما تخضع إدارته لمنطق التوازن والحفاظ على المصالح المشتركة والكلفة القليلة والغنيمة الأكبر، فهو عبث وانتحار لان هذا العدو لا يفكر الا في القضاء على أعدائه ويدير معركة صفرية وان تظاهر مرحليا بغير ذلك.
الحاصل انه يراد للأمة ان تقع رهينة التشخيص المغلوط، وأن يبتعد عن ذهنها ووجدانها الجمعي حقيقة "وجودية الصراع" دون ان يقال لها أن هذا الأمر استسلام وانبطاح وعار كبير، ويراد لها ان تخضع لمتلازمة نفسية تسمى "متلازمة ستوكهولم" مضمونها التوحّد مع المعتدي والوقوع في غرامه كبديل نفسي عن المقاومة.
هنا يتم تضخيم قدرات العدو وتحقير القوة الذاتية ومهاجمة المقاومين الذين يذكرون المفرطين بعارهم فتتم شيطنتهم ونزع شعبيتهم حتى لا تلتف الجماهير حولهم وتتورط انظمة التفريط والعمالة.
الجديد حاليا هو الإعلان عن الخيانة والتفريط دون خجل، بل ووصف هذا العار بأنه تعقل وحكمة وحنكة وواقعية والتمادي في اختلاق التبريرات لدرجة تصبح معها المقاومة هي الخطيئة والجنون والخيانة أيضا!!!
كيف تطورت الأمور ووصلت لهذا الحال البائس؟ نستطيع ان نقول انها مرّت بمفاصل رئيسية قلبت الأحوال والقيم وعكست الأمور بهذا الشكل المخزي والمثير للعجب.
أبرز هذه المفاصل يمكن رصده بالسماح للنخب تحت بند حرية التعبير ان تروّج للتفريط، وأن يسمح لفقهاء السلاطين وكتّاب وصحفيي القصور الملكية والرئاسية بالجهر بالخيانة، وأن تكون المنابر والعناوين الرئيسية للجرائد الرسمية مرتعا للأفكار الصهيونية المكتوبة باللغة العربية بنكهات محلية.
هذا بلا شك انتشر بعد "معاهدة السلام" والزيارة المشؤومة للقدس المحتلة والتي قام بها الرئيس المصري أنور السادات والتي لها جذور سابقة لكنها كانت متوارية ولم تجرؤ على الاعلان عن نفسها.
هذه الجذور لم تكن متعلقة بالسادات وحده وإنما ببذور طابور خامس عميل في كل الاقطار كان ينتظر إشارة البدء في قطره حتى يعلن عن نفسه ويروّج للمهانة ويزايد على المقاومين والشرفاء.
لا بد وان نعترف بشجاعة بأن الصراع الوجودي مع الصهاينة لم يعد وجودياً في وجدان قطاعات عريضة من الجماهير والتي رأيناها منشغلة بهموم أخرى حتى في ظل القصف على غزة أو لبنان، بل وليس بهموم أخرى فقط بل ربما بمباراة لكرة القدم تتزامن مع غارات صهيونية.
لا نريد ان ننفي ان هناك بالمقابل قطاعات لا زالت مهمومة، ولكن فكرة انقسام الشعوب لقطاعات متباينة الرؤية والمشاعر تجاه قضية مركزية ووجودية هي كارثة في حدّ ذاتها!
العبث الرئيس كان في وجدان الأمة وثوابتها وتم تركيز الحرب النفسية على هذا الوجدان الجمعي ولا شك وأن أعمق مستوى في الوجدان هو الدين، فكان التركيز منصبا على تشويه مفهومه وجوهره واستخدامه كأداة تقسيم وتفتيت بدلا من حقيقته كأداة للوحدة وتجاوز الخلافات والانتماءات الضيقة.
لم تكن صور الوحدة الاسلامية ـ المسيحية جزءاً من الدراما قطّ ولكنها كانت واقعا وكان الجنود المسلمين بجوار أقرانهم المسيحيين في المعارك تجمعهم القضية، والآن لا قضية ولا معركة وأصبحت الصور الفوتوغرافية والتليفزيونية مجرد نفاق بصري لواقع بائس هشمه التكفير. كما لم يكن زواج السني من الشيعية او العكس حكايات تقال للأطفال قبل النوم بل كانت واقعاً!!
هذا الواقع البائس هو الأرضية الخصبة لاحتلال الأمم وهو ما نراه واقعاً في كل التسويات والتي تسعى لتقاسم النفوذ كلفظٍ مهذب لتقاسم الغنيمة وإحترام الحدود الأمبراطورية الاستعمارية الجديدة.
والحكام العرب لا مشكلة لديهم ان يكونوا مجرد ولاة، على غرار ولاة المماليك أو العثمانيين تحت أمرة أي خليفة عثماني او بيزنطي، المهم بالنسبة له هو الولاية وغنائمها.
الشرعية لا زالت تعطى من واشنطن ومن مؤسسات المال الكبرى عبر عمودين رئيسيين هما الاقتصاد الحر والحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، ومن يحافظ على ثبات هذين العمودين هو رئيس شرعي وهو ما فقهه حكام العرب واعتبروه حنكة وخبرة ودراية بالسياسة متجاهلين الشرعية الشعبية ومتناسين أن قوانين النظام الدولي وأسسه تتغير وأن لا بقاء الا للقوي، حتى وان شنت عليه الحروب فهو الأكثر أمنا ورسوخاً ممن ينتظر القتل وتداعي وانهيار "المنسأة" من يديه ليخر ساقطا.
الأمور لم تعد تقاس بالعقود حالياً أو حتى السنوات بل بالشهور، والشهور القليلة القادمة هي شهور حاسمة في بنية النظام العالمي الجديد التي تتشكل والتي ستشهد تحالفات تقليدية متصارعة على رجل العالم المريض الجديد وهو الأمة العربية.
وما يصعّب الأمور هذه المرة هو إختفاء الفلسفات والأيدلوجيات وبالتالي ستكون التحالفات والصراعات أكثر حدّة لأن المصالح وحدها هي الحاكمة.
من الواضح أن قراراً دولياً أتخذ في دهاليز إجتماعات النظام العالمي السرية في نادي روما الفكري ومؤتمرات ميونيخ للأمن ومؤتمر بلدربيرغ بالتصعيد بغرض المساومات وتقاسم النفوذ ولا خيار أمام الأمة إلا المقاومة للحفاظ على حد أدنى من الإستقلال وإلا ستصبح ولايات محتلة.
أما كيف ستكون المقاومة وسط هذا الزخم من الخيانة المعلنة ووسط الحرب بالوكالة عن القوى الكبرى والصهاينة، فهو أمر في غاية الصعوبة ويحتاج جهدا كبيرا من كافة اطياف المقاومة ووحدة فيما بينهم اولاً لصياغة منهج لنشر ثقافة المقاومة وإنقاذ الشعوب وهو أمر لن يكون مجدياً لو إعتمد على خطط طويلة أو متوسطة المدى.
ولا نعتقد أن المرحلة الحالية يمكن الاكتفاء فيها بالاعلام أو مراكز الدراسات ولكنها تتطلّب الى جانب ذلك أساليباً أخرى أشبه بالحملات التي تستخدم أسلوب طرق الأبواب لتنبيه الجماهير لما يحاك لهم.
نعم الأمر جد عاجل وخطير ويحتاج تحرك فوري وإعتماد خطط قصيرة الاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وهو قدر المقاومة ونظنها على قدر المسؤولية.

(كاتب مصري)

2017-02-16