ارشيف من :نقاط على الحروف

عن حي السلم: مَواطن شقاء.. حيث لا تقع عين الدولة

عن حي السلم: مَواطن شقاء.. حيث لا تقع عين الدولة

عن حي السلم: مَواطن شقاء.. حيث لا تقع عين الدولة

في بلدي تختلفُ الحياة بين منطقةٍ وأخرى، وقد تختلف بين شارع وآخر. تختلفُ تماماً، اختلافاً فاضِحاً.
 بين الفوضى التي تزعجُ العينَ والقلبَ معاً والهدوءِ المريحِ فرقٌ شاسعٌ. إلا أنَّ القلوبَ قد لا تختلف. والأحلامُ، أعتقدُها لا تفرقُ بين الشوارعِ، تمرُّ ليلاً أو حتى في اليقظة دونَ تمييز. قد يكونُ الفرقُ أنَّ الأحلامَ في الشوراعِ الضيقةِ وفي البيوتِ المتراصةِ بِعطف فوق بعضها لا تنامُ ولا تستريحُ.
لا يُخَيّلَنّ إليك حين دخولك الضاحية الجنوبية لبيروت أن تشهد ما تشهده من تنظيم في العمران وتناسق في المشهد كالذي تلحظه وسط العاصمة. ذاك التنظيم يتلاشى شيئا فشيئا كلما ولجت عمق الضاحية أكثر.

حي السلم يرحب بك. الحي الموسوم بالفوضى والحرمان والأزمات اللامتناهية هو صورة عن أماكن كثيرة ممتدة على طول الوطن.
عند تجوالك في الحي هنا تطالعك وجوه طبعَ الشقاءُ عليها بصمةً لا تزولُ إلا بِقدرةِ قادر.
أما الجدران هنا فتستندُ إلى بعضِها كأنَّ الواحدَ يَستمِعُ أنينَ وشكوى الآخر. رقيقةٌ هذه الجدرانُ، لا تَحجُبُ عن سُكّانِها أصواتَ الخارِجِ. وفي الخارجِ أيضاً تَتناهى إلى أسماعِ المارةِ أحاديثُ البيوتِ، أصواتُ شجارِ أهلِها ونجواهُم، أصواتُ نشراتِ الأخبار أو المسلسلاتِ التي تُتابِعُها "الصَّبايا". تَتطايَرُ كُلُ تلك الحروفِ وتَلتحمُ معَ ذراتِ المَكان. قد يفنى أصحابُها وتبقى هي، ومع الزمنِ تتكدَّسُ أكثر.
هذا وقتُ عودةِ الطُّلابِ مِن مَدارِسِهم. تَزدَحِمُ شوارعُ المنطقةِ "البائسةِ"، بالباصاتِ المترعَةِ بالأولاد، عدا عَن العائدينَ مِنهم سيراً على الأقدام. هذا الوقتُ بالتحديد بَطيءُ الوتيرة. لو أُتيحَ للطُّرقاتِ أن تُطوى حتى يصِلَ هؤلاءِ إلى منازلهم سريعاً ويضعوا عن كواهلِهم حقائبَهم المثقلةَ بالكتبِ وقلوبَهم المثقلةَ أيضاً على صِغَرِها، فيحظوا بِقِسطٍ من الأمل.

على تلكَ الشُّرفةِ الصغيرةِ والمُطلّةِ على الزُّقاق، اجتمعَ ثلاثةٌ يَحتسونَ القهوةَ، شرابَهم المُفضَّل. يتناولونّ في حديثِهم شجونَ أيامِهم وأمنياتهم. أخالُ الحلمَ جليسَهُم الرابع. ماذا لو كانتِ الشرفةُ أكثرَ اتساعاً؟ ماذا لو كانت مطلةً على حديقةٍ تَفتَرِشُها الزُّهور المزركشةُ الألوان. ليسَ من الضروري أن تكون تلك الحديقة المُتخيّلة كبيرة جداً. المهم ان يجد المرء ما يعينه على الاسترخاء بعد يوم منهك للغاية، سعياً في تأمين أدنى مستويات العيش الكريم.
الدراجات النارية، في هذا الحي النائي عن عين الدولة، تكاد تضاهي بعددها أنفاس البشر. مرغمون هم على اقتنائها لتوفير تنقلاتهم بسبلٍ غير باهظة التكلفة.
صخب السيارات وضجيج الحياة هنا لا يترك مجالاً لطيرٍ أن يُرى. وماذا سيفعل طائر هنا في هذه الفوضى والتبعثر الكئيب. فالطيور تهوى الهدوء ولا تتخذ من الشقاء مساكن لها. قد يكون مسكنها في شارع آخر.

عن حي السلم: مَواطن شقاء.. حيث لا تقع عين الدولة

على بعد أمتار من تلك الشرفة المكتظة بالأمنيات حفرة أشغال كبيرة. منظرٌ لا يروق للمتلذذ بطعم القهوة بعد عناء. عمال كثر حول الحفرة التي يبدو أن لا وقت أنسب لوضعها عثرة في طريق الناس أكثر من بداية العام الدراسي وفصل الأمطار!! هذه الحفرة التي تنبئ بمشروع عظيم الشأن في المنطقة، تضيّق العيش أكثر مما هو ضيق وتزيد المشهد المتعب اختناقاً. هي ليست "الجورة" الوحيدة. ثمة زميلات لها في "الشارع" الذي يبقى اسم "شارع" فضفاضاً عليه كثيراً.

 على الرغم من أن هذا المشهد يجب أن يكون غير اعتيادي، إلا ان أهالي حي السلم ألفوا تفاصيل تلك اللوحة التي رسمتها يد الحرمان والاهمال.
فأنى للشقاء أن يترك هذه الوجوه والمشهد نفسه منذ أعوام خلت، بل يزيد تعقيداً وبؤساً. وأشك بأن يتغير مع كل ما يعانيه بلدنا من أزمات في وقت تبقى فيه عين الدولة مسمّرة باتجاه آخر أبعد ما يكون عن مصالح المواطنين وراحتهم.

 

2017-02-23