ارشيف من :آراء وتحليلات
زيارة ’الجبير’.. هل تبدأ التسويات من بغداد؟
زيارة الجبير تعد إقراراً ضمنياً بخطأ السياسات والمواقف السعودية السابقة حيال العراق
من الطبيعي جداً أن تثير زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير للعراق، جدلاً واسعاً، بين مؤيد ومرحب بها، وبين من رافض ومنتقدٍ لها، وهذا أمر متوقع، نظراً لطبيعة العلاقات العراقية - السعودية الملتبسة والشائكة، لاسيما بعد الإطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، وكذلك نظراً لحالة الاستقطاب السياسي الحاد بعناوين طائفية - مذهبية في المشهد السياسي العراقي العام.
المرحبون والمؤيدون للزيارة، يرون أن السعودية طرف عربي وإقليمي له ثقله وأهميته في المنطقة، ولا بد أن يكون للعراق معها علاقات طيبة، ويرون، أن هذه الزيارة، تنطوي على رسالة - أو رسائل ايجابية - ينبغي استثمارها بأفضل صورة، فضلاً عن كونها تمثل فرصة لطرح ومناقشة كافة الاشكالات والنقاط الخلافية بين الطرفين بكل وضوح وصراحة، إلى جانب أن زيارة الجبير وتصريحاته الداعمة للعراق، تعد إقراراً ضمنياً بخطأ السياسات والمواقف السعودية السابقة حيال العراق، والسعي الى فتح صفحة جديدة معه.
أما الرافضون والمنتقدون، فينطلقون في رفضهم وانتقادهم من حقائق ومعطيات من نوع آخر. من قبيل، أن المملكة العربية السعودية كانت ومازالت أحد أبرز خصوم وأعداء العراق، وأكثر من تآمر عليه ودعم الجماعات الإرهابية التي عاثت في مدنه وأسواقه ومدارسه ومساجده وكنائسه قتلاً وتدميراً وتخريباً، وفي دعم وتعضيد كل التوجهات التكفيرية، التي كانت سبباً في إحداث الفتن وزرع الفرقة بين أبناء الشعب العراقي.
ويرى الرافضون والمنتقدون أيضاً، ان المبادرات السعودية السابقة حيال العراق، لم تثمر عن شيء، لانها لم تكن صادقة، ويستشهدون على ذلك بتعيين الرياض أول سفير للعراق قبل نحو عام ونصف بعد قطيعة دبلوماسية امتدت الى قرابة ربع قرن، بيدَ ان وجود السفير السعودي، ثامر السبهان، في بغداد زاد الطين بِلة، وعقّد المشاكل والأزمات بدلاً من أن يحلحلها ويحلها، لتنتهي الأمور إلى طرده، وطلب استبداله بشخص آخر.
ويرى هؤلاء أيضا، أنه كان بإمكان السلطات السعودية العليا ان تطلق رسائل طيبة للعراق، تمهد لزيارة السفير، لا أن تسبقها بتصريحات وحملات إعلامية وسياسية مسيئة للحشد الشعبي، من خلال اتهامه بالطائفية، وارتكابه جرائم ضد المدنيين، وارتباطه بجهات وأجندات خارجية.
ولاشك أن حجج كلا الفريقين قابلة للبحث والنقاش، وهي تلامس الواقع، بيد أن القول بوجوب التهليل والترحيب بزيارة الوزير السعودي، والدعوة الى فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الرياض، دون فتح كل الملفات الشائكة، والقضايا العالقة، والاتفاق على مسارات واضحة، تفضي الى نتائج ايجابية ملموسة لكلا الطرفين، يعد خطأ كبيراً، في الوقت ذاته فإن التشبث بأخطاء وسلبيات الماضي، دون النظر الى ما يطرح اليوم وما يقال، يعني فيما يعنيه إيصاد كل الأبواب أمام أية خيارات للتوصل الى حلول أو تفاهمات أو توافقات بقدر معين، وبدلاً من ذلك، الذهاب بعيداً في الخلاف والتآمر والتناحر والصراع، وما يترتب عليه من خسائر وإستحقاقات مادية وبشرية.
في أوقات ومناسبات سابقة أبدى العراق رغبة حقيقية وجادة في تصحيح المسارات الخاطئة للعلاقات مع السعودية، ولكن الاخيرة لم تتجاوب، وبقيت مصرة على نهجها العدائي، فهناك أعداد كبيرة من الارهابيين السعوديين جاءوا العراق ونفذوا عمليات إرهابية في شتى المدن والمناطق، وهناك الكثير من الأموال السعودية ضخت الى المجاميع الارهابية المسلحة والقوى والشخصيات المناوئة للعملية السياسية، وهناك الكثير من الفتوى التفكيرية التي صدرت عن رجال دين ومؤسسات دينية سعودية ضد شريحة واسعة تمثل غالبية ابناء الشعب العراقي، ناهيك عن الحملات الاعلامية المتواصلة من قبل وسائل الاعلام السعودية الرسمية وغير الرسمية من داخل المملكة وخارجها.
زيارة الجبير لا تكفي لوحدها في تذويب جبل الجليد الهائل بين بغداد والرياض
كل هذه الامور، من الصعب جداً غضّ الطرف عنها ونسيانها بمجرد مجيء الوزير الجبير الى بغداد، وتصريحه بدعم ومساندة العراق في حربه ضد الارهاب، وتبادله الابتسامات والضحكات الدبلوماسية مع كبار المسؤولين في بغداد!.
ولعل الحقيقة التي لايمكن تجاهلها والقفز عليها، تتمثل في ان المحور الذي تعد السعودية أحد عناصره، مني بأنكسارات وهزائم في عدة مواقع، خلال الأعوام الستة الماضية، وراحت الامور تتجه الى التسويات بعد نزيف الكثير من الدماء وازهاق العديد من الأرواح في العراق وسوريا واليمن ودول اخرى.
وحسابات الأرقام تشير بوضوح إلى أن خسائر السعودية كانت فادحة، في ظل غياب مكاسب وأرباح حقيقية وواضحة في الكفة الاخرى، وهو ما يعني ان المنطق العقلاني يفرض مراجعة المواقف، وإعادة النظر في التوجهات، لايقاف نزيف وتداعيات الهزائم والانكسارات.
وبما ان الملفات متداخلة والقضايا متشابكة، فإن الرياض، التي تحتاج الى اعادة ترتيب اوراقها في المنطقة - مرغمة لا مختارة- ربما تجد ان الواقع يحتم عليها ان تطرق أبواب بغداد، وان الظروف والأرضيات التي لم تتوفر لها للتوجه مباشرة الى طهران عبر شخص وزير خارجيتها او بمن في مستواه، ناهيك عن الحواجز والعقد النفسية، ليست كذلك مع بغداد، لاسيما وانها دخلت الى بغداد من "بوابة العروبة".
ومما لا شك فيه ان زيارة الجبير لا تكفي لوحدها في تذويب جبل الجليد الهائل بين بغداد والرياض، واذا لم تتبعها خطوات ومبادرات أخرى جدية مكملة، فإنها ستكون مثل خطوة اعادة فتح السفارة وتسمية السبهان سفيرا لها في بغداد. وكذلك لاتكفي إذا لم تتبعها خطوات ومبادرات أخرى جدية تجاه عواصم اخرى في المنطقة، انطلاقا من حقيقة أن المشاكل والأزمات المتداخلة والمتشابكة تستدعي معالجات وحلول مترابطة ومتتابعة.