ارشيف من :ترجمات ودراسات

الوحدة المصرية السورية... شهادة وأوراق متناثرة

 الوحدة المصرية السورية... شهادة وأوراق متناثرة

 الوحدة المصرية السورية... شهادة وأوراق متناثرة

 "الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوم عليهم أن يظلوا أطفالًا طوال عمرهم"  - محمد حسنين هيكل -

 تسعة وخمسون عاماً انقضت على إعلان الوحدة السورية المصرية. وإننا إذ نستعيد الذكرى، فليس هذا من باب الوقوف على الأطلال بل لأن المناسبة بحد ذاتها هي في عقولنا ووجداننا، بمثابة المِحجٌ تلح أكثر في مناسباتها، وللتذكير بأن "الوحدة" ليست مجرد شعار يعكس عواطف تتأجج في نفوسٍ عامرة بالحماس، بقدر ما هي تعبير عن خيار واعٍ وشرط لازم للتقدم ولأمنٍ قومي عربي، نتلمس فجعيتنا فيه الآن مع هذه الهجمة التمزيقية للقطر الوحد !. فيما كانت وحدة الأقطار العربية حتى الماضي القريب هي القاعدة وعلى مدى قرون وإلى ما قبل "سايكس بيكو" 1916 الذي اصطنع هذه الحدود. وهي مناسبة لتبيان أن الإدعاءات عن أخطاءٍ شابت هذه الوحدة خلال عمرها القصير الذي لم يتجاوز ثلاث سنوات ونصف هو نوع من المبالغات لدرجة أن العارف يدرك بأن تلك الأخطاء تتألق امام خطايا من جاءوا على انقاض الوحدة !!.  إن هذه الإدعاءات يرددها البعض دون معرفة منطلقاتها غير البريئة وغايتها تعميق فكرة التباين القطري بوصفه تباينًا نوعيًّا، تبدو معه فكرة "الوحدة العربية" ضرباً من الطوباوية.  

 الوحدة المصرية السورية... شهادة وأوراق متناثرة
الحدث في صحافة ذلك اليوم


 مقدمات الوحدة
 الحقيقة التي لا مناص منها أن هذه الوحدة بصيغتها الأندماجية كانت اكثر مما يتحمله الواقع، فيما الصيغ الاتحادية ليست في المبدأ اقل شأناً في تحقيق الشبك الوحدوي إذا توافرت لها الإرادة المشتركة بين أطرافها والنوايا الطيبة. وكانت هذه الوحدة اسرع من ان يستوعب العقل، في 15كانون الثاني /يناير حضر فجأةً وفد يمثل الجيش السوري قوامه 20 ضابطاً ومن غير العودة للقيادة السياسية مطالباً بالوحدة الأندماجية الفورية. بعده بأيام جاء شكري القوتلي - مكرهٌ أخاك لا بطل !- سبقه بايام وزير الخارجية صلاح البيطار.  في 22شباط / نوفمبر جرى التوقيع على "وثيقة الوحدة "!، وفي 5 اذار أعلن عن دستورها المؤقت!.  كل شيء تم بسرعة قياسية، وكانت هذه رغبة الجانب السوري ولأسباب سيأتي ذكرها. وبكل الحالات فان هذه الوحدة جاءت على المستوى الشعبي منسجمة مع روح سورية القومية، ونزعتها الوحدوية ولاسيما بوجود قيادة عبد الناصر "التي ربطت مصر بفكرة الوحدة العربية" على حد تعبير صلاح البيطار وزير خارجية سوريا عام 57. يومها أخذ نجم عبد الناصر يسطع في سماء الأمة إثر اتفاقية جلاء القوات البريطانية، وكانت دمشق أول من التقط شعاعه وقد تجلت في عقد اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين عام 1955 حيث كانت قواها الوطنية على أطيافها وتلاوينها، بأمس الحاجة لمصر عبد الناصر لمواجهة الضغوط التي تتعرض لها سوريا للانضمام إلى حلف بغداد. وفي المقابل، فإن مصر وهي تتطلع لزعامة العالم العربي ومواجهة سياسة الأحلاف بأمس الحاجة لنسج علاقة استرايجية مع سوريا.  فيما ارباب حلف بغداد وعلى راسهم نوري السعيد يسعون لعزلها عن اسيا العربية بغية تحجيمها وتقليص تاثيرها. وقد كانت سوريا هنا بيضة القبان في ترجيح كفة أي من المحورين المتصارعين. وبالفعل فقد استطاعت القوى الوطنية السورية من خلال حسم المعركة داخلياً وبالوسائل الديمقراطية سنة 1955 بالمجيء بحكومة صبري العسلي المناوئ لحلف بغداد وقد ضمت وزارته يومذاك وجوهًا قومية ووطنية.  ومنذ ذلك الوقت أخذت تتعالى الأصوات في سوريا مطالبةً " بالاتحاد مع مصر ".

 الوحدة المصرية السورية... شهادة وأوراق متناثرة

 الدوافع

 كانت الانقسامات بين القوى السياسية على اشدها في الداخل السوري، وعدم الثقة حتى بين صفوف الجبهة الواحدة. البعثيون، حلفاء القاهرة آنذاك، كانوا يخشون في الداخل (حليفهم) الشيوعي. فقد كان لافتا تنامي حزبهم على خلفية موقف "الاتحاد السوفياتي" من أزمة السويس وقبلها تسليح الجيشين المصري والسوري بأسلحة اعتبرتها "اسرائيل" كاسرة للتوازن.
 أما على صعيد الجيش السوري فقد كان منقسما إلى أجنحة متصارعة حتى أصبحت وحدة عسكرية تشكل دولة ضمن دولة!. وبالرغم من هذا فإن ضباطه كانوا واعين لحجم مأزقهم الذي قد يطيح بالبلد، ومجمعين على أمرين: رفض ربط سوريا بالأحلاف الغربية، والرضوخ لزعامة عبد الناصر. ذهب هؤلاء الضباط المتصارعين المنقسمين في وفد واحد!. اجتمعوا بعبد الناصر قائلين له "هذه سوريا لك".  وللحقيقة فقد تردد الرجل، وقال لهم –فيما جاء- بمحضر الاجتماع الذي نشرته ابنته هدى قبل عامين : " لا يمكن القبول بهذا لأنكم لستم حكومة سوريا، وحتى الوحدة لا تتم عاطفيا بهذا الشكل؛ لأنها تحتاج الى 5 سنوات.  ومن الأفضل أن نبدأ بوحدة عسكرية وسياسية وثقافية. "واستمر الضباط في اصرارهم فيما بدى تضحية بالنفس مع قولهم: "افعل بنا ما تريد... انقذنا فقط من السياسين ومن انفسنا "!!.  
اشترط عبد الناصر عليهم إما ممارسة السياسة وهذا يقتضي استقالتهم من الجيش او البقاء فيه مع عدم الاقتراب من السياسة فوافقوا عليه. كما واشترط على وفد الحكومة السورية الذي وصل فيما بعد حل الأحزاب على غرار ما حدث في مصر فوافق البعثيون وحلوا بالفعل حزبهم. ولكن "لأمر ما جدع قصيرٌ أنفه"!. فقد ثبت ان قادة البعث ايامها كانوا يتطلعون لتجيير الوحدة إلى قناتهم في تصفية الشيوعين الذين عارضوا الوحدة منذ اليوم الأول ومن بعدها حكم سوريا بتوكيل من عبد الناصر، وهو امر أفصحوا عنه فيما بعد ورفضه عبد لناصر مما حدا باكرم الحوراني نائب رئيس الجمهورية وصلاح البيطار وزير الثقافة إلى تقديم استقالتهما صيف 1959 في محاولة للضغط على عبد الناصر بوصفهما القرار البديل الممكن او الأوحد للإمساك بسوريا!، فوافق على الاستقالة فوراً !، ليكتشفوا ان عبد الناصر ليس من النوع الذي يوضع تحت الضغط ليختار وبما يجعله غير ممسك بمفاصل اللعبة... وهذه السمة في الرجل سنتلمسها في موقف آخر سنأتي عليه لاحقاً.  

 الوحدة المصرية السورية... شهادة وأوراق متناثرة

 شهادة

 لقد عايشت بعض هذه الأحداث ولو أني كنت على ضفافها بحكم العمر، وهذا لقربي من والدي وكان من الفاعلين في بعضها او من الشهود على بعضها الآخر بحكم منصبه؛ ولعل ذلك خلق عندي فيما بعد نوعا من الفضول لتقفي خبايا تلك المرحلة ومن اكثر من جهة. وعليه استطيع القول في هذه العُجالة وبضمير مطمئن إن مقتل الوحدة لم يكن فيما قيل عن "القمع الأمني ومصادرة الحريات"، ولا عن تجاوزات ارتكبها فعلاً بعض الضباط المصرين بحق زملائهم السورين، وقد تبين لي ان ما قيل عن اخطاء او خطايا ظلت اسقاطاته على المستوى الشعبي في اضيق الحدود بين النقد أو السخط، ولكن برجاء التصويب في إطار دولة الوحدة، وتحت قيادة جمال عبد الناصر بالذات، وليس الانفصال بالقطع، والدليل يبدو في مشهدين ساطعين :
الأول ان الكثير من الضباط المشاركين في انقلاب 28 ايلول 1961 قد انجرفوا في الأمر بوصفه بابًا لنقل مطالبهم لعبد الناصر وليس لفك الوحدة، والبلاغات الأولى لحركتهم وما دار بينهم وبين المشير عامر شاهد. هذا للأمانة والتاريخ. أما لماذا عاد هؤلاء عن قرارهم وكيف، حتى رجحت دعوة زملائهم من الضباط المنادين بالانفصال وقد تبين أنهم على صلة بالأردن !، فهذه تكشفها الوثائق فيما بعد، ولها باب اخر يدعو إلى قراءة جديدة للأحداث وبعقل بارد، ربما بات ممكناً بعد مضي اكثر من نصف قرن عليها. لكن وقطعاً للطريق على الشك الذي قد يراود القارئ اشير إلى واقعة وهي معاودة هؤلاء الضباط الاتصال بالقاهرة، فقد أوفدوا إليها ثلاثة منهم في زيارة سرية ؛ قابلوا عبد الناصر في نيسان/ابريل 1962 اي بعد سبعة اشهر، عارضين عليه القيام بانقلاب لإعادة الوحدة بشرط ان يعفي عنهم. لكن عبد الناصر رفض لأنها مسألة مبدأ. ولأن "الوحدة التي ذهبت بانقلاب لا تعود بانقلاب"، لا عجب فهذا هو عبد الناصر كما سبق وذكرنا يرفض اي وضع يجعله غير ممسك باللعبة. أما المشهد الثاني فهو ان حركة الضباط في دمشق قابلها تمردٌ مضاد في المنطقة الشمالية والساحلية ومنذ الساعات الأولى، فيما كانت باقي القطعات العسكرية مترددة في تأييد الانقلابين لأكثر من يومين.  ثم تلاه تمرد آخر بعد ستة اشهر فيما يعرف "بثورة حلب" قام بها مجموعة من الضباط الناصرين وبعض البعثين، وكادت هذه ان تطيح بالانفصال. لقد شهدت شوارع وساحات المدن السورية من اقصى الجنوب إلى الشمال مظاهرات شعبية تهتف للوحدة ولرئيسها منذ اليوم الأول للانقلاب. ولم يمض شهر على مدى سنة ونصف من عمر "حكومة الانفصال" إلا وكانت الشوارع السورية تشهد مظاهرات هنا او هناك ضد الانفصال. ولا زالت شوارع المدن وساحات جامعتي دمشق وحلب شاهدة على هتاف الطلبة : " لا دراسة ولا تدريس إلا بعودة الرئيس ".  
جاءت حركة آذار 63 لإعادة الوحدة !!. لكن الروح القبلية المتجذرة بددت الآمال، حتى أن الانفصال الأول في عام 61 لم يكن محبطاً بقدر الانفصال الثاني الذي تكرس بالصراع الدموي بين الناصرين والبعثين في تموز 63.  والذي أدى لقطيعة بين مصر وسوريا حتى عادت العلاقات الدبلومسية بينهما عام 1966، مثل الغرباء التقيا فيما بعد!، وكأنهما لم يكونا يوما جسدا واحدا ومصيرا تعمد بالدم في مواجهة الاستعمار.  تكرس الانفصال وضاعت الوحدة التي خشي الغرب ان تتوسع لتشمل اقطارا عربية. تكرس الانفصال وبعده بأربع سنوات كانت جنازير الدبابات الإسرائيلية تجتاح الجولان وسيناء والقدس العربية... وهكذا حتى وصلت الأمة إلى حافة الانهيار الذي هي عليه الأن. . مأساة تذكرنا بأبيات شعرية لنزار قباني:
تقاتلي، تناثري، يا قبائل العروبة...
يا نسخة ثانيةً من سيرة الأندلس المغلوبة.     
    

(*) كاتب لبناني

 

2017-03-04