ارشيف من :ترجمات ودراسات
المواربة : كيف مثّلت ’القاعدة’ على دونالد ترامب والإعلام الأمريكي
التساؤلات ما زالت كثيرة حول المسؤولية عن "الحادثة الكيميائية" في "خان شيخون"
سكوت ريتر (*)ـ ترجمة خاصة لموقع "العهد" الإخباري
في يوم من الأيام وبّخ دونالد ترامب ـ رجل الأعمال من مدينة نيويورك الذي أصبح رئيسا للجمهورية ـ الرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما في أيلول/ سبتمبر 2013 على فكرته الخاطئة حول ضربة أمريكية عسكرية ضد سوريا. في ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام القوة ضد سوريا للرد على الادعاءات (إذ إنها مدحوضة على نطاق واسع) ان نظام الرئيس بشار الأسد قد استعمل الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في الغوطة بريف دمشق. وصرّح ترامب عبر تغريدة على تويتر "الى رئيسنا الأحمق، لا تضرب سوريا ـ فإن فعلت، سيحدث الكثير من الأحداث السيئة ولن تجني الولايات المتحدة من ذلك شيئا!"
وعلى الرغم من أن الرئيس أوباما صرّح علناً أن استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام السوري هو "خط أحمر"، وفي حال تم تخطيه فإن ذلك سيتطلب عملا عسكريا أمريكيا، فقد رفض أوباما رفضا قاطعا أن يعطي الأمر بالهجوم وذلك اعتماداً على تحذيرات من جيمس كلابرـ مدير الاستخبارات القومية ـ من أن المعلومات المتعلقة بالهجوم الكيميائي على الغوطة غير قاطعة.
وفي مقابلة أجرتها معه مجلة “The Atlantic” في 2016، علق أوباما قائلا: "هناك كتاب سيناريوهات في واشنطن ينبغي على الرؤساء اتباعه. إنه كتاب يصدر عن مؤسسة السياسة الخارجية. يقدم هذا الكتاب ردودا لمختلف الأحداث، وهذه الردود تميل لأن تكون عسكرية. ويقول أوباما: "وفي الوقت الذي قد يكون كتاب سيناريوهات واشنطن مفيدا في أوقات الأزمات، هو يشكل فخا يؤدي الى قرارات سيئة."
وكانت ملاحظته حول "الخط الأحمر "لاستخدام الأسلحة النووية بالإضافة الى الكلام الساخن الذي أدلى به أقرب مستشاريه ومن ضمنهم وزير الخارجية جون كيري الذي لمح الى رد عسكري، بمثابة الفخ. في آخر الأمر، اختار الرئيس أوباما التراجع قائلا "أن إلقاء القنابل على أحد ما لتبرهن أنك مستعد لأن تلقي القنابل عليه هو السبب الأسوأ لاستخدام القوة." وقد وبخ الإعلام والجمهوريون وحتى أعضاء من حزب أوباما نفسه الرئيس لاتخاذه هذا القرار.
لكن في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بالغ الرئيس المنخب دونالد ترامب في توبيخه لأوباما لتجنبه "كتاب سيناريوهات واشنطن". فقد تغير الوضع على الأرض في سوريا بشكل جذري منذ 2013. لقد استولت "الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش" على بقعة واسعة في العراق وسوريا، وأسست عاصمة في مدينة الرقة السورية، وأعلنت إنشاء "الخلافة" الإسلامية. وبدأت المساعي الأمريكية لإزاحة الرئيس السوري الأسد عن السلطة "تأتي أكلها"، ما دفع روسيا للتدخل في أيلول/ سبتمبر 2015 لدعم الرئيس السوري المحاصر.
الرئيس ترامب حلق منفردا خارج سرب المواقف التي أتخذها معظم صناع السياسة الأمريكية سواء من الجمهوريين أو ديمقراطيين معلنا أنه على الولايات المتحدة أن تركز على محاربة "داعش" وهزيمتها وليس على محاولة تغيير النظام في سوريا. يقول ترامب: "موقفي هو أنك تحارب سوريا وسوريا تحارب "داعش" وأنت تريد ان تتخلص من داعش. روسيا اليوم في صف سوريا تماما. واليوم عندك إيران التي أصبحت قوية بسببنا وهي أيضا بصف سوريا... نحن الآن ندعم الثوار ضد سوريا، ونحن ليس لدينا أي فكرة من هم هؤلاء الناس." وكذلك يضيف ترامب مع التواجد الروسي القوي في روسيا، إذا هاجمت الولايات المتحدة الأسد "سينتهي بنا الأمر الى محاربة روسيا من خلال محاربة سوريا."
ويبدو أن "فريق الرئيس" وعلى مدى أكثر من شهرين كان ينفخ الحياة في فكرة أن الرئيس الجديد كسلفه الذي سبقه قد ألقى "كتاب سيناريوهات واشنطن" من النافذة فيما يتعلق بالسياسة المتعلقة بسوريا. بعدما أمرت إدارة ترامب بسلسلة انتشارات عسكرية جديدة في سوريا والعراق بشكل خاص لمواجهة "داعش"، بدأت تتكلم علنا عن تغيير جوهري في سياستها تجاه الرئيس السوري.
للمرة الأولى منذ أن تكلم الرئيس أوباما في آب/ أغسطس 2011 عن تغيير النظام في دمشق كشرط مسبق لإنهاء الصراع المدني القائم منذ نيسان/ أبريل 2011، قال المسؤولون الحكوميون الأمريكيون أن الأمر لم يعد كذلك. ففي 30 آذار/ مارس 2017 ، قالت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هايلي للصحافيين: "عليك أن تختار معاركك. وعندما ننظر الى هذا الوضع، نرى أن الأولويات تغيرت وأولويتنا الآن لم تعد التركيز على إزالة الأسد من الحكم." كرر وزير الخارجية "زكس تيلرسن كلام هايلي" الذي قال في نفس ذلك اليوم وخلال زيارة رسمية الى تركيا: "أعتقد أن الشعب السوري سيقرر مصير الرئيس الأسد على المدى البعيد."
هذا التوجه السياسي الجديد بالكاد دام خمسة أيام. ففي وقت ما باكرا بعد ظهر الرابع من نيسان/ أبريل 2017، بدأ ناشطون معادون للحكومة من ضمنهم ما يسمى بمجموعة "الخوذ البيض"، وهي "مجموعة انقاذ تطوعية" اتخذت اسمها من فيلم وثائقي حائز على الجائزة الأكاديمية ببث صور ومشاهد مقلقة لمنطقة إدلب السورية. وتظهر هذه الصور ضحايا في مراحل مختلفة من مظاهر المآسي من ضمنها الموت بسبب التعرض ـ كما قال الناشطون ـ للأسلحة الكيميائية ألقتها القوات الجوية السورية على بلدة "خان شيخون" صباح ذلك اليوم.
وبدأ بث هذه الصور مباشرة عبر وسائل الإعلام الأمريكية مع مقابلات لنقاد يدينون بشاعة وفظاعة طبيعة الهجوم الكيميائي الذي اتهمت الحكومة السورية بالإجماع بشنه، رغم أن الدليل الوحيد الذي قدم كان هذه الصور وشهادة "الناشطين المناهضين" للرئيس الأسد الذين كانوا وقبل أيام فقط يدينون التغير في السياسة الأمريكية تجاه تغيير النظام في سوريا. وقد شاهد الرئيس ترامب هذه الصور وانزعج كثير لما رأى وخاصة صور الأطفال الأموات والأطفال المعانيين.
كانت هذه الصور تعرض خلال بث خطاب مؤثر لهايلي في مجلس الأمن في الخامس من نيسان/ أبريل 2017، عندما واجهت روسيا وهددت بتحرك عسكري أمريكي أحادي إذا فشل المجلس في الرد على الهجوم الكيميائي السوري المزعوم. " استيقظنا بالأمس على مشاهد لأطفال والرغوة تخرج من فيهم، يعانون من التشنجات وهم بين أذرع أهلهم التعساء،" تقول هايلي وهي تعرض نموذجين من الصور.. "رأينا صفوفا من الأجساد بلا حراك، بعضها لأطفال ما زالوا بالحفاضات. لا يمكننا أن نغمض أعيننا لهذا الصور. لا يمكننا أن نغفل عن المسؤولية للتحرك." في حال رفض مجلس الأمن القيام بأي تحرك ضد الحكومة السورية، قالت هايلي: "أحيانا في حياة الأمم نضطر لإتخاذ تحركاتنا الخاصة."
في العام 2013، واجه أوباما مشاهد لقتلى وجرحى مدنيين من ضمنهم العديد من الأطفال الصغار من سوريا. كانت المشاهد تفتت القلب كتلك التي عرضتها المندوبة هايلي، وقد ألقى وزير الخارجية جون كيري خطابا مؤثرا دعا الى التحرك العسكري ضد سوريا. وقد طلب الرئيس أوباما وتلقى مجموعة واسعة من الخيارات العسكرية من طاقم الأمن القومي تستهدف نظام الرئيس الأسد. ولم يمنع أوباما من اعطاء الضوء الأخضر للبدء بالقصف سوى تدخل جايمز كلابر والشكوك بشأن صحة المعلومات المتعلقة بالهجوم الكيميائي على الغوطة من قبل الحكومة السورية.
كالرئيس أوباما من قبل، طلب الرئيس ترامب من طاقم الأمن القومي التحضير لخيارات للتحرك العسكري، ولكنه خلافا لسلفه لم يسع دونالد ترامب للتريث في عملية اتخاذ القرار لحين تتحقق الاستخبارات مما حدث فعلا في خان شيخون، ومثل مندوبته نيكي هايلي تحرك دونالد ترامب وفقا لردة فعله الغريزية لدى رؤيته الصور التي نشرت. عصر يوم السادس من نيسان، وعندما كان يتحضر لمغادرة البيت الأبيض لعقد قمة مع وفد يترأسه الرئيس الصيني شي جين بينغ، بدت كلمات ترامب الموجزة ردا على سؤال أحد الصحافيين بشأن رد أمريكي وكأنها تظهر أنه حسم قراره: "سترى،" قال وهو يغادر المكان.
في غضون ساعات، أطلقت مدمرتان بحريتان أمريكيتان 59 صاورخا من طراز “توماهاك كروز،Tomahawk Cruise Missile” (ثمن الصاروخ حوالى 1.41 مليون دولار) على مطار الشعيرات في وسط سوريا مستهدفا مدرجه وطائراته الحربيّة ومستودع وقود والذخائر ومباني الدفاع والاتصال. وفي مطار الشعيرات كان يركن سربين للمقاتلات الروسية SU-22 التي كانت القوات السورية تستخدمها. وقد رصد الرادار الأمريكي أحد السربين يغادر مطار الشعيرات صباح الرابع من نيسان 2017 ويحلق فوق سماء خان شيخون قرابة وقت حدوث الهجوم الكيميائي المزعوم.
كان هدف الضربة الأمريكية مزدوجا. وفقا لما قال وزير الخارجية تيلرسن الهدف الأول هو بعث رسالة للحكومة السورية وحلفائها "أن الرئيس مستعد لاتخاذ تحرك حاسم عندما يستدعي الأمر ذلك" وخاصة عند الحصول على دليل على هجوم كيميائي الذي لا يمكن للولايات المتحدة "أن تتجاهله". والهدف الثاني وفق ما قال متحدث عسكري أمريكي هو خفض قدرة الحكومة السورية على نقل الأسلحة."
بالإضافة الى ذلك، فإن سياسة شهر العسل التي أعلنت عنها إدارة ترامب مؤخرا حيال تغيير النظام في سوريا قد انتهت. فقد قال الرئيس ترامب للصحافيين قبل بدء الضربة الصاروخية: "من الممكن جدا جدا وسأقول لكم أنه قد تغير فعلا موقفي من سوريا ومن الأسد بشكل كبير." وأردف وزير الخارجية تيلرسن قائلا: "يبدو وكأن الرئيس الأسد لم يعد له دور في حكم الشعب السوري."
هذا التغيير في أساسيات السياسة واتجاهها في مثل هذه الفترة الوجيزة مذهلا جدا. فدونالد ترامب لم ينحرف قليلا عن طريق، إذ أنه انقلب 180 درجة. فالسياسة السابقة المبنية على تفادي التدخل في الشؤون الداخلية في سوريا لصالح هزيمة "داعش" وتحسين العلاقة مع روسيا استبدلت بدعم حاد لتغيير النظام، اشتباك عسكري مباشر مع القوات السورية المسلحة وموقف مواجه تجاه التواجد العسكري الروسي في سوريا.
بطبيعة الحال، يمكن تعليل مثل هذا التغير الجوهري في السياسة بحقيقة جديدة مستقاة من حقائق دامغة. أما الهجوم الكيميائي المزعوم ضد خان شيخون ليس حقيقة جديدة. فالهجوم بالأسلحة الكيميائية يحدث بشكل دوري داخل سوريا، رغم المساعي الدولية لنزع قدرة سوريا على التسلح الكيميائي التي اتخذت في 2013 والتي لعبت دورا أساسيا في إحباط التحرك الأمريكي العسكري في ذلك الوقت.
وقد أدت التحقيقات الدولية في هذه الهجمات الى نتائج متضاربة. فبعضها اتهم الحكومة السورية (وهذا ما تنكره الحكومة السورية بشكل قاطع) والأغلبية تتهم المقاتلين المناهضين للنظام وبالأخص جبهة النصرة التابعة لـ"القاعدة".
بالإضافة الى ذلك، فالمصادر متضاربة عند الحديث عن استخدام الأسلحة الكيمائية في سوريا الى درجة صد أي ردة فعل تلقائية تلقي اللوم لما جرى في خان شيخون فقط على الحكومة السورية دون أي تحقيق رسمي. ولكن هذا ما جرى بالظبط. فقد وقعت حادثة كيمياوية في خان شيخون؛ والسؤال الذي يسأل: من المسؤول عن اطلاق الأسلحة الكيمياوية التي أدت الى قتل الكثير من المدنيين؟
لا أحد يشك في أن مقاتلة سورية من طراز SU-22 أتمت مهمة إلقاء القذائف على هدف في خان شيخون صباح الرابع من نيسان/ أبريل 2017. لكن الناشطين المناهضين للرئيس الأسد نسجوا قصة تقول أن القوات الجوية السورية ألقت القذائف الكيمياوية على المدنيين وهم نيام.
لكن ثمة معلومة خطيرة غابت بشكل كبير عن تقارير الإعلام الأساسية وهي أن خان شيخون هي بؤرة للجهاديين الإسلاميين وقد كانت مركز التحركات المعارضة للأسد في سوريا منذ 2011. وحتى شباط/ فبراير 2017 كان يسكن خان شيخون جماعات مؤيدة لـ"داعش" تعرف باسم "لواء الأقصى" التي كانت منخرطة بصراع يتخلله العنف مع التنظيم المنافس النصرة ( التي سميت لاحقا بتحرير الشام، ولكن مهما كان الاسم فهي تعمل كذراع القاعدة في سوريا) على موارد والغلبة السياسية على سكان المحلة.
وقد زعمت وزارة الدفاع الروسية أن لواء الأقصى كان يستخدم الأبنية في خان شيخون وحواليها لصناعة القذائف الكيمائية الخام والألغام لتستخدمها قوات "داعش" في العراق. ووفق ما قاله الروس فإن صناعة الأسلحة الكيمائية في خان شيخون وجدت أيضا في مواقع أخرى كشفتها القوات الروسية والسورية عقب استعادة المساحات التي كان يسيطر عليها الثوار في حلب.
في حلب، اكتشف الروس مختبرات لصناعة الأسلحة الخام حيث كانت قذائف الهاون والألغام تملأ بمزيج من غاز الكلور والفوسفور الأبيض؛ وبعد تحقيق قضائي قام به مختصون عسكريون، قدم الروس نماذج من هذه الأسلحة مرفقة مع نماذج تربة المناطق التي تم قصفها بالأسلحة التي صنعت بهذه المختبرات لمحققين من منظمة تحريم الأسلحة الكيمائية لمزيد من التحقيق.
لجبهة النصرة تاريخ طويل في صناعة واستخدام الأسلحة الكيمياوية الخام؛ ففي الهجوم الكيميائي على الغوطة في 2013 استخدم عامل السارين المخفف low-grade Sarin nerve agent تم تركيبه محليا. أما في الهجوم على حلب ومحيطها استخدم مزيج من الكلور والفوسفور الأبيض. إذا كان الروس محقين في أن المبنى الذي قصف في خان شيخون صبيحة الرابع من نيسان/ أبريل 2017 كان يستخدم لصناعة أو لتخزين الأسلحة الكيمياوية، فإن ذلك يزيد الاحتمال القائل بأن عوامل وملوثات سامة أخرى تسربت الى المحيط المجاور وزاد انتشارها مع الرياح.
لكنه تم التقليل من شأن القصة الروسية والسورية المضادة وكذلك سخر منها وتجاهلها الإعلام الأمريكي وإدارة ترامب، وهناك أيضا المقدمة اللامنطقية التي ألقي الضوء عليها للإجابة على السؤال القائل بأنه لماذا الرئيس الأسد قد يخاطر بكل شيء من خلال استخدام الأسلحة الكيمياوية ضد هدف لا قيمة عسكرية له في وقت مالت معادلة القوة الاستراتيجية بشكل كبير لصالحه؟ وكذلك، لماذا روسيا التي وظفت رأسمال سياسي وازن لنزع قدرة سورية على التسلح الكيميائي بعد 2013، وقفت دون حراك عندما كانت المقاتلات السورية تقوم بهذا الهجوم، خاصة مع التواجد العسكري الروسي الكثيف في القاعدة الجوية المعنية وقت تنفيذ الهجوم؟
مثل هذا التحليل بدا خارج نطاق وإدراك السلطة الأمريكية الرابعة. عوضا عن ذلك، ترى وسائل الإعلام مثل CNN تتبنى مباشرة كل ما تقوله المصادر الأمريكية الرسمية ومن ضمنها تلميح لا يمكن تصديقه بأن روسيا شاركت فعليا بالهجوم الكيمائي؛ والتواجد للضباط الروس الذي تم ذكره آنفا في قاعدة الشعيرات قدم كدليل على أن روسيا كانت على علم بالقدرة الكيميائية الحربية السورية، ولكنها لم تفعل شيئا للحؤول دون وقوعها.
لدعم هذا اللامنطق، استغل المجتمع الأمريكي وصناع القرارا الأمريكيون الحملة الدعائية الخادعة والتي تحتوي على مشاهد وقصص زودتها القوات المعارضة لنظام الرئيس بشار الأسد والتي تشمل أيضا منظمات كـ"الخوذ البيض" والجمعية الطبية السورية ـ الأمريكية ومركز حلب الطبي، وتاريخ كل هذه المنظمات حافل بتقديم المعلومات المحرفة التي صممت للترويج لرسالة مناهضة للأسد. (وقد اعترف دونالد ترامب أن هذه الصور لعبت دورا أساسيا في القرار الذي اتخذه لإعادة تقييم رأيه ببشار الأسد وإعطاء الأمر للضربة الصاروخية على مطار الشعيرات).
الكثير من المقاتلين التابعين لـ"تحرير الشام" هم محاربين قدامى في معركة حلب، ولهذا هم يألفون كثيرا الأدوات وتجارة الحرب الأعلامية الواسعة التي شنت في الوقت ذاته مع الحرب الواقعية سعيا للتأثير على الرأي العام الغربي لتبني موقفا أكثر عدائية في وجه حكومة الأسد السورية. والكثر من هذه الأدوات قدمت للترويج قصة معاكسة حول حادثة خان شيخون الكيميائية. (الأمر الساخر أن الكثير من الناشطين المعنيين من ضمنهم "الخوذ البيض" قد تم تدريبهم وتجهيزهم في خطوات ملعوبة على وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام أموال قدمتها الولايات المتحدة: وفي النهاية هذه التقنيات استخدمت للتلاعب بالرئيس الأمريكي ولحمله الى على عمل حربي ربما لم يمر أبدا على فكر طاقم وزارة الداخلية الذي حاك وطبق البرنامج).
ولكن حتى التمرين الاعلامي البارع لا يمكنه أن يموّه عن تضارب المعلومات الواقعية. ففي وقت مبكر، كانت وسائل الإعلام المعارضة والمناهضة للأسد تقدم حادثة خان شيخون على أنها هجوم بعامل "السارين" "Sarin nerve agent"؛ أحد الأطباء التابعين لـ"القاعدة" أرسل صورا وعلق على وسائل التواصل الاجتماعي قائلا أن الأعراض الموثقة تتضمن البؤبؤ الممدد وهو شخّص بأن ذلك يعود الى التعرض لعامل السارين. ولكن السارين هو مادة لا رائحة لها ولا لون تنتشر كسائل أو كرذاذ؛ وقد تكلم شهود عيان عن "رائحة قوية" وغيوم "زرقاء مصفرة" التي تشير أكثر ما تشير الى غاز الكلور.
وفي حين أن وسائل الإعلام الأمريكية مثل CNN تكلمت عن ذخائر ممتلئة حتى الحافة بعامل "السارين" استخدمت في خان شيخون، لا وجود لأي دليل استشهد به أي مصدر قد يدعم هذه المقولة. وقد قدمت المشاهد المؤثرة لضحايا يتم اسعافهم من قبل منقذي "الخوذ البيض" كدليل على عوارض شبيهة لما يسببه عامل "السارين". في الواقع فإن صحة هذه الصور غير موثوقة وكذلك لا يوجد مشاهد لضحايا في ساحة الهجوم. بدلا عن ذلك نرى أن الفيلم الذي قدمته "الخوذ البيض" يعرض عملية التطهير والمعالجة وهي تتم في مركز "الخوذ البيض" بعدما نقل الضحايا سواء كانوا موتى أو جرحى الى هناك.
وكذلك نجد أن طاقم "الخوذ البيض" لا يرتدي الثياب الواقية المناسبة لمعالجة الضحايا وهذه إشارة أخرى الى أن العامل الكيميائي المعني لم يكن "السارين" المصنف عسكريا؛ إذ إن كان كذلك، لأصبح المنقذين أنفسهم ضحايا (بعض الروايات تتكلم فقط عن هذه الظاهرة، لكن ذلك حدث في أرض الهجوم حيث ساد المنقذين عامل كيميائي ذو "رائحة قوية" - مجددا نقول أن السارين لا رائحة له.)
أكثر من 20 ضحية في حادثة خان شيخون نقلوا الى المستشفيات التركية لتلقي العلاج؛ غير أن ثلاثة منهم توفوا تباعا. يقول وزير العدل التركي أن تشريح الجثث أكد أن سبب الوفاة كان التعرض لعوامل كيميائية. وقد أشارت منظمة الصحة العالمية أن العوارض التي ظهرت على ضحايا خان شيخون تشبه تلك التي تظهر حين التعرض للسارين والكلور. وقد تمسكت وسائل الإعلام الأمريكية بالأقوال التركية ومنظمة الصحة العالمية كدليل على تورط الحكومة السورية: لكن أي تعرض لخليط الكلور/ الفوسفور الأبيض المرتبط بأسلحة النصرة الكيميائية قد يؤدي الى عوارض مشابهة.
وإلى ذلك، اذا كانت النصرة قد كررت استخدام "السارين" منخفض الدرجة الذي استخدمته في الغوطة في العام 2013 في خان شيخون، فإنّ المرجّح أن يظهر على بعض الضحايا أعراض "السارين". فعيّنات الدم المأخوذة من الضحايا قد تظهر بدقّة المادة الكيميائية المستخدمة، ويُزعم أنه قد تمّ جمع تلك العينات من قبل عناصر مرتبطين بالنصرة، ووصلت إلى محققين دوليين (والفكرة هنا أنّ أيّ جهة تحقيق جدّية قد تسمح للنصرة بتزويدها بالدليل الجنائي في إطار تحقيق يجعلها أحد المتّهمَين المحتمَلَين مهولة بحدّ ذاتها، ولكن هذا ما حصل بالضبط). ولكن إدارة ترامب اختارت التصرّف قبل معالجة تلك العينات، لربّما خوفاً من أن لا تحمل نتائجها تلك الإتهامات المزعومة لاستخدام السارين من قبل القوة الجويّة السورية.
وقد تعمّدت وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية تبنّي قصّة أتباع القاعدة على نطاق واسع، أولئك الذين لهم سجلّ موثّق وحافلٌ باستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية وتحريف "الدلائل" وفبركتها للترويج للسياسات المناهضة للأسد في الغرب، بما يتضمّن تغيير النظام. وقد اتّخذت تلك الوسائل الإعلامية قراراً متعمّداً بتبنّي رؤية القاعدة بدلاً من الرواية التي أتت بها الحكومتان الروسية والسورية من دون أن تكلّف نفسها عناء التأكد من حقيقة كِلا الموقفين. ولكن هذه التصرفات لا يبدو وكأنها قد صدمت الرأي العام الأميركي، ففي ما يتعلّق بسورية، لطالما عمدت وسائل الإعلام الأميركية وجمهورها إلى تبني رواية القاعدة وغيرها من الجهات الإسلامية المعادية للنظام.
والمجرم الحقيقي هنا هو إدارة ترامب، والرئيس ترامب نفسه. فسجلّ الرئيس في إعطاء أهميّة أكبر لما يراه على التلفاز بدلاً من المعلومات الإستخبارية التي قد يحصل أو لا يحصل عليها، وانعدام الفضول الفكري لديه وعدم إلمامه بالفروق البسيطة والتعقيدات التي تحيط بسياسة الأمن الوطني والخارجي على حدّ سواء، قد خلق الظروف التي جعلت من صور ضحايا خان شيخون المرسلة من الوسائل الإعلامية المؤيدة للنصرة (القاعدة) مؤثرة في قرارت مصيرية تشكّل مسألة حياة أو موت.
وليس من المفاجئ أن يكون الرئيس ترامب سريع التأثر بهذا التضليل الواضح، نظراً إلى نزعته للردّ من خلال "تويتر على أي تغيّر مزعوم. ولكنّ الفضيحة هي أنّ فريق أمن ترامب القومي قد جعله مضلّلاً ولم يقم بأيّ شيء لتغيير رأيه ولم يحبط تصرّفه ريثما تتمّ مراجعة شاملة للحقائق. وسيظهر التاريخ أنّ ترامب ومستشاريه والإعلام الأميركي كانوا أكثر من مغفّلي القاعدة وفروعها، التي نتج عن تضليلها للرواية السورية تغيّر أساسي في سياستها يفوق أهدافها.
أمّا الرابح الآخر من هذه الرواية المؤسفة فهو تنظيم داعش الذي استفاد من الضربة الأميركية على الشعيرات لبدء هجوم كبير ضدّ قوات الحكومة السورية في محيط مدينة تدمر (وكان مطار الشعيرات هو القاعدة الجوية الأساسية المستخدمة في عمليات منطقة تدمر). في حين إن فشل العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة يعني على الأقلّ في المستقبل المنظور، أنّ التعاون الذي كان حاصلاً في قتال داعش أصبح شيئاً من الماضي، ما يتفاءل به مقاتلو داعش وحدهم. أمّا في ما يخصّ الرجل الذي كثيراً ما شدّد على قهر داعش، فإنّ أفعال الرئيس ترامب لا يمكن النظر إليها إلا كونها جرح ذاتي، أو فرقة إطلاق نار دائرية من أعمال أحد شرطيي "كيستون"، وإنما ليس القائد الأعلى لأقوى دولة في العالم.
ولكن من سيضحك أخيراً هو الرئيس الأسد نفسه. ففي حين زعم البنتاغون أنّه دمّر مطار الشعيرات بشكل ملحوظ، معتبراً أنّ 58 من أصل 59 صاروخاً مبرمجاً قد أصاب هدفه، أعلنت روسيا أنّ فقط 23 صاروخاً هبط في المنشأة، محدثاً تدميراً محدوداً فقط. أمّا المدرج فلم يُصب بأيّ أذىً، وبالفعل، في فترة بعد الظهر من يوم 7 نيسان/أبريل من العام 2017، أقلعت مدمّرة تابعة للقوة الجويّة السورية من مطار الشعيرات، طائرة باتّجاه محافظة إدلب حيث هاجمت مواقع للنصرة بالقرب من خان شيخون.
(*) كبير مفتشي فريق الأمم المتحدة في العراق المكلف بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل من 1991 إلى 1998. المصدر: "هافينغتون بوست" ـ 9 نيسان/ أبريل 2017