ارشيف من :آراء وتحليلات
الرئاسيات الفرنسية : جميع المرشحين سقطوا في الدورة الأولى!
في الحقيقة، جميع المرشحين للرئاسيات الفرنسية قد سقطوا في الدورة الأولى: ليس بينهم مرشح نال عدداً مشرفاً من الأصوات كفيل بأن يجعل منه قائداً أو زعيماً حقيقياً للشعب الفرنسي (جان لاسال، أحد المرشحين، قال بصراحة وهو ليس الوحيد الذي يقول ذلك، بأن فرنسا تعيش دون قائد منذ أربعة عقود". ويمكننا أن نقرر بسهولة بأن فرنسا تضعف بلا توقف، وأن نفترض بأن رجلاً من نوع شارل ديغول كان سيرفض الذهاب إلى قصر الإيليزيه عن طريق 25 بالمئة أو حتى 51 بالمئة من الأصوات. لكن وجه الدولة الذي يعاني من الذبول في كل مكان مقابل كل ما هو غير حكومي، والنقص الكبير في الكاريزما عند المرشحين، يفرضان هذا الواقع ويجعلان من الـ 24 بالمئة التي حصل عليها إيمانويل ماكرون ومن الـ 22 بالمئة التي نالتها مارين لو بين (ما لا يصل إلى الحصول على تأييد ربع الفرنسيين) كافية لأن تحمل المرشح الفائز إلى قمة السلطة.
لكن هذ الأمر لا ينطبق على على جان-لوك ميلونشون. فالـ 19 بالمئة الني نالها تجعل منه، وهو الذي ما يزال حتى الآن يسارياً بمعنى أن المفترض هو كون اليسار، قبل كل شيء، رفضاً للرأسمالية وللإمبريالية وتعاطفاً مع قضايا الاستقلال والعدل الاجتماعي، يجعلان منه المنتصر الوحيد والكبير في رئاسيات العام 2017. وكان ميلونشون قد حصل على ما يزيد قليلاً عن 11 بالمئة من الأصوات في رئاسيات العام 2012، ما يعني أنه حقق اختراقة حقيقية مع الـ 19 بالمئة التي حصل عليها في الانتخابات الحالية.
هذا التقدم الكبيرسيفتح له، في حال استمراره بالوتيرة نفسها، أبواب قصر الإيليزيه. وهناك، لن يكون عليه غير البقاء وفياً لمبادئه لكي تقلب فرنسا صفحة كامل تاريخها كبلد كاسر واستعماري، ومؤيد بلا تحفظ، في الفترة الأخيرة للولايات المتحدة وللكيان الصهيوني.
للرئاسيت الفرنسية وجه مجيد آخر. فقد أثبتت، مع الضربة القاسية التي وجهت فيها إلى الاشتراكيين، أن كثيراً من الناخبين الفرنسيين ما زالوا قادرين على معاقبة نخبهم غير المهتمة بشكل كاف بإخراج فرنسا من الحفرة التي سقطت فيها عندما انحنت، في سياستها الخارجية، منذ رحيل شارل ديغول، أمام إملاءات واشنطن وتل أبيب، وفي سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، أمام تطلبات النيوليبرالية المتوحشة.
ومع الـ 19 بالمئة التي حصل عليها فرانسوا فيون، وهي 19 بالمئة أقل وزناً بكثير من تلك التي حصل عليها ميلونشون، فإن الضربة التي وجهت إلى الجمهوريين ليست بالقسوة ذاتها. فالحزب الجمهوري يفترض به أن يكون استطالة للديغولية. لكن هذه الاستطالة ليست مما يعتد به بقدر ما يقوم مرشح الجمهوريين بوضع السخف المتجلبب بجلباب الذكاء في موضع المباديء. مثال على ذلك بين أمثلة أخرى يمكن أن نأخذه من رؤية فيون المتعلقة بالحرب التي تستهدف محور المقاومة في الشرق الأوسط : كثيرون صدقوا مؤخراً أن فيون الذي شغل العديد من المناصب الوزارية، إضافة إلى كونه رئيساً سابقاً للوزراء، في حكومات يمين الوسط التي شاركت بنشاط في دعم "الربيع العربي" وإفرزاته الإرهابية، صدقوا أن فيون قد أصبح مناصراً لإيران والرئيس الأسد وحزب الله. صحيح أنه دعا إلى تقديم الدعم لهم لأنهم القوى الوحيدة التي تقاتل "على الأرض" وبشكل "حقيقي" ضد داعش. غير أن الدعم الذي يطالب به ليس غير محاولة لاستخدام القوى المذكورة، "في مرحلة أولى"، قبل التخلي عنها، أو بالأحرى، لمحاربتها في مرحلة لاحقة. أليس هو القائل في السياق نفسه : "أنا أعتبر للأسف أن النظام السوري ضروري، في مرحلة أولى، من أجل ضرب داعش". ما يعني أنه ليس ضرورياً لأنه يدافع عن قضية عادلة.
لقد مثل فيون مؤخراً أمام المحاكم بتهمة التورط في قضايا فساد. وبهذا سهل فوز المرشحين اللذين وجهت إليهما التهمة نفسها واللذين سيتواجهان في الدورة الثانية، أي مارين لو بين وإيمانويل ماكرون. لو بين تعتمد توجهاً سيادياً تجاه الاتحاد الأوروبي، وقد قدمت وعوداً بمكافحة الرأسمالية المتوحشة والهجرة اللتين يتسببان، وفق ما تقول، بأضرار للعمال الفرنسيين. وهي، كأكثر زملائها العشرة من المرشحين، تعتمد خطاباً تشوبه شوائب عنصرية كثيرة، ولكنه يحرز المزيد والمزيد من التقدم ويمنحها الكثير من الأمل بالفوز في ظل الأزمات الزاحفة على الصعيدين الاجتماعي والأمني. لكن حظوظها بالوصول إلى قمة السلطة أقل من حظوظ منافسها ماكرون القادم من الأوساط المصرفية والذي يسعى، هو الآخر، إلى إخراج فرنسا من أزماتها ولكن عبر منح التسهيلات للاستثمارات الأجنبية. والواقع، أن كبار المرشحين الخاسرين قد طلبوا إلى منتخبيهم أن يصوتوا لماكرون بهدف عدم تمكين مارين لوبين من الفوز.
إن انتخاب ماكرون في الدورة الثانية سيفتح الباب بالضرورة أمام دورة ثالثة، وذلك بالنظر إلى كون هذا السياسي الذي سيصبح رئيساً للجمهورية لا يأتي من حزب سياسي قوي ولا يمتلك نفوذاً في الجمعية العمومية الفرنسية. لكن يبدو أن مهنته كمصرفي، في زمن باتت فيه المصارف هي من يحتكر السلطة في أنحاء العالم، تعطيه ضمانة جيدة.