ارشيف من :آراء وتحليلات
تركيا... والانقلاب على الديمقراطية؟
شھدت تركيا العام الماضي انقلابا عسكريا ضد الرئيس رجب طيب أردوغان ما زال لغزاً والشكوك تدور حوله، وحالياً شھدت انقلاباً "دستوريا" نفذه أردوغان عبر استفتاء شعبي على تعديلات دستورية من شأنھا أن تغيّر النظام من نظام برلماني علماني الى نظام رئاسي إسلامي، وتعطي أردوغان صلاحيات مطلقة وتبقيه في سدة الرئاسة حتى العام 2029 على الأقل، وتكرسه "سلطانا" معيدا التاريخ الى الوراء، الى أيام السلطنة العثمانية.
نتيجة الاستفتاء أعطت أردوغان ھامشاً ضيقا من الفوز،
نتيجة الاستفتاء أعطت أردوغان ھامشاً ضيقا من الفوز، وكانت كافية لإدخال تركيا مرحلة تاريخية جديدة، يتنقل فيھا نظام الحكم من برلماني تمثيلي واسع الصلاحيات إلى رئاسي تنفيذي، ويختفي فيه منصب رئيس الوزراء، مقابل تمتع رئيس الجمھورية بصلاحيات تنفيذية واسعة، من خلال إمساكه بمختلف مفاصل السلطات التنفيذية، إلى جانب التحاق قائد الأركان في شكل مباشر بالرئيس، وليس بوزير الدفاع، وقيامه بتعيين 12 قاضياً من قضاة المحكمة الدستورية العليا الخمسة عشر، وبعض أعضاء اللجنة العليا للقضاء ووكلاء النيابة.
قادة حزب العدالة والتنمية يعتبرون أن التعديلات الدستورية لا تستهدف جوھر نظام الحكم الجمھوري، بل تغيير شكل العمل الحكومي، وأن الغاية منھا تسريع آليات اتخاذ القرار وتنفيذه، تفادياً لعراقيل الحكومات الائتلافية والبيروقراطية المعقدة، والأھم من ذلك إسدال الستار في شكل نھائي على حقبة زمنية طويلة من صراع الحكم المدني مع المؤسسة العسكرية.
ولا شك في أن ھذا الانقسام الحاد في المجتمع التركي ھو نتاج الاستقطاب السياسي الحاصل منذ سنوات، وسيفضي الدخول في مرحلة النظام الرئاسي عبر تغيير مواد الدستور بصورة مؤسسية، إلى إثارة غبار كثيف في البيت التركي، المفعم بإرھاصات دوائر من الصراع والتجاذُب التاريخي، بالنظر إلى طبيعة الھويات المركّبة ما بين الشرق والغرب، والتي لم تتمكن علمانية الدولة من حسمھا أو تجفيف منابعھا الثقافية والاجتماعية، على رغم عمليات العزل للھويات الاجتماعية عن الدساتير التي عرفتھا تركيا، خصوصاً في ھيمنة المؤسسة العسكرية على الحكم، وكتم أنفاس الديمقراطية بانقلابات حفرت عميقاً في ذاكرة المواطن التركي، الذي تحرك سريعاً ضد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف تموز الماضي.
بعد الاستفتاء الشعبي يتعاظم الحديث في تركيا عن النتائج السياسية. ويكرر النائب القومي المعارض أوميت أوزداغ أن الھدف الحقيقي من النظام الرئاسي ھو منح الرئيس صلاحيات مبطنة لإصدار قرارات تنفيذية، ليتمكن من إعادة توزيع تركيا إدارياً، وتقسيمھا إلى 5 أو 7 أقاليم حكم إداري، تمھيداً لتسوية ملف الأكراد وإعطائھم إقليما فدراليا في جنوب شرقي البلاد.
وترى المعارضة في ھذا الطرح إشارة واضحة إلى "مشروع سياسي سري لتحويل تركيا فدرالية، تحت ستار النظام الرئاسي". وأعادت مواقع إخبارية نشر تصريحات أدلى بھا أردوغان عام 2013، ورد فيھا أن "تركيا يجب ألا تخشى تجربة الحكم الفدرالي"، علما أن كلامه تزامن مع مساعي المصالحة مع "حزب العمال الكردستاني" والعمل لتسوية سياسية للأزمة الكردية. ولم يُصدر الرئيس أو حكومته نفيا لمسألة الفدرالية ومشروع حكم الأقاليم، إذ تجاھلا الأمر خلال حملاتھما الدعائية.
بينما يعتبر محللون أن النظام الرئاسي قد يقود تركيا إلى نظام حكم متسلط، ويضعف الحريات الديمقراطية واستقلال القضاء، مستدركين أن الحصانة والإمكانات التي سيمنحھا للرئيس المقبل، ويرجح أن يكون أردوغان، ستمكّنه من اتخاذ خطوات سياسية جريئة وعملية لحل الملف الكردي، وتغيير السياسة الخارجية لأنقرة، لتعاود تناغمھا مع السياسة الأميركية في المنطقة، وتتخلى تدريجا عن ملف الجماعات الإسلامية الذي يكبّلھا.
النتيجة جاءت متقاربة لجھة التأييد والرفض!
لذلك تتحدث المعارضة عن دعم أميركي خفي لمشروع النظام الرئاسي، في مقابل رفض أوروبي، من خلال تركيز كل طرف على مصالحه في تركيا.
وقد أثارت تھنئة الرئيس ترامب للرئيس التركي بفوزه في الاستفتاء، الذي أعطاه صلاحيات سياسية واسعة عززت سلطته كزعيم أوتوقراطي، الكثير من الاستھجان والاستغراب في واشنطن والعواصم الغربية، لأن فرق المراقبة الدولية قالت:" إن الاستفتاء لم يكن نزيھا وشابته انتھاكات عدة". واستغرب المراقبون السرعة التي أجرى بھا ترامب اتصاله الھاتفي بأردوغان، أي قبل صدور التقويم النھائي لفرق المراقبة الدولية.
أما الاتحاد الأوروبي فيركز على الحريات والديمقراطية وملف اللاجئين، والانقلاب الدستوري يواجه معارضة داخلية غير فعّالة ولكنه يتسبب بحالة عدم استقرار سياسي في مرحلة انتقالية دقيقة من نظام الى آخر. وھذا التغيير الجذري في تركيا يقود الى تأزم أكبر بين تركيا وأوروبا ويطيح ما تبقى من احتمالات دخول تركيا الى الاتحاد الأوروبي، خصوصا إذا استتبع ھذا الاستفتاء على الدستور باستفتاء آخر على إعادة عقوبة الإعدام، والتي أكد أردوغان أنه سيصادق على العودة للعمل بها إذا أقرھا البرلمان بعد الاستفتاء على تعديل الدستور.
الاستفتاء حسم الجدل في تركيا في شأن الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، لكن النتيجة التي جاءت متقاربة لجھة التأييد والرفض، وضعت تركيا أمام مشھد داخلي جديد، لجھة التداعيات وخريطة القوى المتنافسة على ھوية البلاد وخياراتھا السياسية.
خبراء في الشأن التركي يرون أن التحالف الذي نشأ بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية لم يكن تحالفاً حقيقياً راسخاً بمقدار ما كان اتفاقاً بين قيادتي الحزبين. وأن حزب العدالة والتنمية خسر معقله التاريخي أي إسطنبول التي قالت لا، فضلاً عن العاصمة أنقرة، وھذا يشكل ضربة شخصية لأردوغان الذي انطلق من بلدية اسطنبول في بناء مجده الشخصي والسياسي وزعامته، ولعل خسارة المدينتين المھمتين تشكّل مؤشراً سياسياً إلى رفض واضح لسياسة حزب العدالة والتنمية ، والوصول إلى مرحلة الاصطدام بالبنى المدنية للمجتمع.
كيف سيدير أردوغان البلاد في مرحلة النظام الرئاسي؟
السؤال الجوھري ھو كيف سيدير أردوغان البلاد في مرحلة النظام الرئاسي؟ وكيف سيتعاطى مع قضايا الانقسام والاستقطاب والأكراد والصراع التقليدي بين الإسلام والعلمانية؟ وكيف سيوفّق بين رئاسته حزب العدالة والتنمية ورئاسة البلاد، في وقت صوّت نصف سكانھا تقريباً ضد النظام الرئاسي؟ وھل سنشھد سياسة جديدة تجاه الاتحاد الأوروبي الذي وقفت تركيا على باب عضويته ستة عقود؟ وماذا عن ملفات الشرق الأوسط ولا سيما الأزمة السورية؟ ھذه الأسئلة وغيرھا تشكل ھواجس تركيا المستقبلية.