ارشيف من :خاص
انتصار أيار عام 2000 في ذاكرة البقاعيين
تطفئ فرحة تحرير الجنوب اللبناني من الصهاينة شمعتها السابعة عشرة. فَتِيَّةً صارت تلك الفرحة، تكبر مع الأيام وتزدان من دون أن يخبو وَهجها في القلوب والضمائر الحيَّة. تكبر وتكبر معها انتصارات أخرى، فيكبر بذلك الحب والولاء للمقاومة الأبية ولسيدها الأمين على الأرواح سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله).
تَقهقرُ الجيش، الذي كان لا يهزم بنظر المتخاذلين، أبعدَ عن ذاكرة الجنوبيين سنوات بطش الاحتلال واستبداده من قتل وتشريد واعتقال وتعذيب وحواجز.. فكانت أيام اندحار العدو بدءاً من الواحد والعشرين من أيار أعراساً جنوبية، رفرفت فيها رايات المقاومة في كل الأيادي ووصلت عنانَ السماء زغاريدُ النسوة.
إلى الجنوب مع أولى بشائر التحرير
تلك الأيام المجيدة لا تمحى من ذاكرة البقاعيين، الشركاء في صنع ذلك الانتصار العظيم. أبناء البقاع سارعوا ليعيشوا النصر في الأرض التي تحررت للتو. وكتفاً إلى كتف دخلوا مع أبناء الجنوب إلى قراهم، متنشقين في أرجائها عبير الكرامة والحرية.
" بس وصل الخبر وبلشوا يعرضوا صور اقتحام الأهالي للضيع، ما حملني دمي أبداً، قمنا مشينا عالجنوب، أنا وأخي، صرنا نلتقي بالناس عالطريق رايحة، الي معه سيارة دغري مشي. كانت فرحة رهيبة. مشينا من دون ما نفكر". يجعلك كلام "أبو جواد" (52 عاماً، من بلدة سحمر)، تلمس لهيب حماسة البقاعيين وغمرة الحبور التي ما استثنت أياً من دورهم.
تلك مشاعر لم يستطع يوسف (43 عاماً، من بلدة شمسطار) الإفاضة في وصفها. "كنت بشغلي وتلقيت الخبر. فخر عظيم الي كان عم يصير خاصة إنو طلعت بنفس النهار عالجنوب الحبيب. شفت بحر البشر الي طالع. طلعت وهدفي شوف الحقيقة الي كنا ناطرينها، حقيقة هزيمة الجيش الصهيوني على أيدي أبطالنا".
رهبة وهيبة وفخر وعظمة وبهجة وسرور واعتزاز.. كلها اختلطت في أفئدتهم وساقتهم إلى الجنوب مشاركين إخوانهم فرحة الخلاص من الطغيان.
أعراس النصر جابت البقاع
لم يكن البقاع حينها أقل ابتهاجاً. على غرار أعراس الجنوب أقام أبناؤه الاحتفالات، فعانقت زغاريد النسوة فيها تلك التي أطلقتها نساء الجنوب. وكانت "حلقة الدبكة" واحدة، من أقصى الجنوب إلى أقصى البقاع. في قرى البقاع، خزان المقاومة، خرج الناس متبادلين التهاني، وزّعت النسوة الحلوى وبادر الميسورون إلى مد ولائم النصر.
" لحظة ما بتنتسى لما سمعنا الخبر" يقول فادي (38 عاماً، من مدينة بعلبك)، "صرنا نصرخ ونقفز .. علّينا صوت الراديو وطلعنا لبرا. شوي شوي صارت تتجمع الناس ويكبر الاحتفال. غنينا مع أهل الجنوب ودبكنا ع دبكتهم، وبكينا ع بكاهم. وبعدنا لليوم منقول متل ما قالت الحجة بوقتها: الحمد لله الي تحررنا".
عن ذلك أيضاً، يحكي أبو حسن الرجل السبعيني (من بلدة العين)، وبين أجفانه يترقرق دمعٌ نشوان. "كانت من المرات القليلة التي بكيت فيها، بكيت من الفرح طبعاً.. مشهد يهزّ كل إنسان يحمل في قلبه حب وطنه". أبو حسن يخبر عن جمعٍ لم يعرف الهدوء طيلة أيام التحرير وحتى الاندحار الكامل يوم الخامس والعشرين من أيار، بين سهرات الزجل وتجمعات تتابعُ عبر التلفاز تسارع انهيار جبروت المحتلين تحت أقدام المتقدمين لتحرير أرضهم.
استقبال المجاهدين الغانمين
السابع والعشرون من أيار آنذاك، كان موعد قدوم المجاهدين الفاتحين إلى البقاع، مستقلين آليات عسكرية إسرائيلية خلّفها العدو المذعور من ضربات المقاومين. قافلة غنائم التحرير حطت في مختلف ساحات البقاع، وعبرت ببطء وسط الأمواج البشرية المحتشدة على جوانب الطرقات. وفي استقبال المجاهدين أحضرت المدارس طلابها وخرج الشيوخ والأطفال والرجال والنساء اللاتي نثرن الورود والأرزّ وتسابقن في صدْح الـ"أوها" (الأهازيج الشعبية) والزغاريد المعبرة عن الشكر للسيد حسن نصر الله والمجاهدين الأبطال.
غدير (25 عاماً، من مدينة الهرمل) تذكر جيداً، رغم أنها لم تتجاوز يومها السبع سنوات، كيف سارعت مع عمتها لقطف الأزهار من حديقة البيت وكم كان الشوق يغلبها حين "فرطت الأزهار الملونة فوق الأرزّ في سلة كبيرة"، وكيف "كاد قلبها يقفز من مكانه عندما رأت الآليات تعلوها أنوار وجوه المجاهدين، يلوحون بالرايات الصفر وصور القادة والشهداء". غدير "قصدت تأمل وجوه الحاضرين، فكانت مصبوغة بألوان فرح لم يسبق لها رؤيته".
مشهد استقبال موكب الأبطال كان متشابهاً على امتداد البقاع. موكب لا يمكن للأيام أن تغيِّب صورته عن ذاكرة أم علي (50 عاماً، من بلدة التوفيقية): "الناس كلهم رافيعن إيديهن وكأنه صوت واحد الكل صار يقول (يا الله يا الله احفظ لنا نصر الله)، والشباب فوق عالدبابة يكبروا. وأهل الضيعة كانوا جايبين خواريف ذبحوها ع شرف المجاهدين". مشهد لم يقوَ حاضروه على التعبير عنه ولا يزال، على حد إجماعهم، أصعب وأكبر من أن تصفه بضع كلمات، فهو ولادة وطن وحياة أمة.
ثمرة الدم الزاكي
عبثاً حاول الحقد الصهيوني التفريق بين أبناء الوطن الواحد. فكان البقاع المدد والعون للجنوب في وجه ذلك الحقد. ولم يبخل أبناؤه بتقديم أرواحهم فاختلط الدم وأصبح سيلاً يجرف المحتل. من هنا كانت فرحة التحرير في أبهى تجلياتها مرسومة على وجوه عوائل الشهداء والجرحى، الذين كانوا على يقين أن دماء الآباء والأبناء لن تذهب هباءً. فكان الخامس والعشرون من أيار عام 2000 ثمرة الدماء التي ارتوت منها أرض الجنوب.