ارشيف من :آراء وتحليلات

أميركا والاستحقاقات المؤجلة سورياً

 أميركا والاستحقاقات المؤجلة سورياً


حتى الآن لم تحقق اميركا أغراضها في سورية. فلا هي أسقطت نظام الرئيس الأسد عبر المنظمات الارهابية، ولا هي كرست وقائع جغرافية ثابتة تفضي إلى تقسيم سوريا كما رمى إليه مخططها المسمى "الشرق الأوسط الجديد". ولا هي من ناحية أخرى كرست حضوراً عسكرياً لها يمكن ان تطمئن له لعمل قواعد عسكرية على غرار ما فعلته روسيا. وعلى الرغم من تشتت القتال على امتداد الرقعة السورية تقريبا فإن الجيش السوري يحتفظ بوجود وازن في جهاتها الأربع، من الجولان ودرعا اقصى الجنوب وفي الحسكة اقاصي الشمال مرورا بدير الزور، وهو صامد فيها بثبات مما يجعلها نقاط ارتكاز او منصات للتوسع في العمليات العسكرية متى حان وقتها. أما التدخل الأمريكي غير المباشر عبرالأكراد وقبله من قبل تركيا فقد جاء مفكك الأوصال، بما حمله من تناقضات بين مصالح الطرفين.

 

 أميركا والاستحقاقات المؤجلة سورياً
الاستنزاف الأميركي لدول الخليج بالفزاعة الإيرانية حتى اصبحت تلك بقرة حلوباً لسد عجز الخزينة الأمريكية


 المأزق الأمريكي

  بالرغم من كل هذه العجقة في المشهد السوري وبالرغم من مساعي اميركا لخلق مزيد من التعقيدات فيه، إلا أن هذا لم يفضِ لخلق مرتكز استراتيجي للولايات المتحدة تبني عليه للمستقبل كشريك في تقرير مصير سوريا. كل ما أفضى إليه دور واشنطن التخريبي أنه استدعى وجوداً عسكرياً قوياً لروسيا في سوريا!، بات من ثوابتها الاستراتيجية لخمسين سنة على الأقل، وهذا بحسب الاتفاقيات المعقودة بين البلدين، كما نجم عن هذه الهجمة الاميركية على سوريا أمر بالغ الأهمية والخصوصية وهو أنها باتت ساحةً للملمة الشمل بين روسيا والصين وايران وحلفائها، أو على حد تعبير سيد المقاومة "في هذه المسألة السورية التقى الحلفاء". بل هم "أكثر إنسجاماً وتفاهماً من أي وقت مضى"، والوصف لسماحة السيد نصر الله في خطابه الأخير في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد القائد مصطفى بدر الدين.
هل ما سبق ينطبق على حلفاء اميركا. بالتأكيد لا، المفارقة أن الأخيرين خارج سوريا حلفاء، إلا في سوريا!. وكأن الأخيرة باتت لعنةً عليهم، فقد تضاربت أدوارهم وتعارضت مصالحهم حتى بلغ شقاقاً رأيناه تقاتلاً بين فصائل ارهابية، هذه محسوبة على قطر في مواجهة فصائل محسوبة على السعودية، وتلك كردية في حرب مع منظمات محسوبة على تركيا. والشاهد على ذلك القتال الدائر في ريف دمشق ودرعا وداخل مدينة أدلب وقبلها في الشمال، ما يشكل عبئاً على صورة تلك المنظمات بالرغم من مساعي تجميلها من قبل البروباغندا الغربية والعربية الخليجية تحت مسمى "ثوار"، أو "معارضة معتدلة"!. المأزق الآخر لاميركا أن تلك المنظمات الارهابية هي آلة عسكرية بلا رأس سياسي، اي مجرد عضلات بلا عقل! وهي تحاول ترويضها لتكون أكثر انضباطا وقد جرى ويجري ذلك بتصفيتها لعدد من قادتها (غير المنضبطين) عبر غارات على مواقعهم تحت مسمى "الحرب على الارهاب". فيما المجموعات السياسية التى جرى تجميعها في وفد واحد وبعد جهد جهيد ليس لها أدوات عسكرية فاعلة على الأرض تأتمر بها، وعليه فإنه حتى لو جرى جدلاً إقرار اتفاق سياسي ما في جنيف ستجد اميركا أن جماعتها من المعارضة المدنية ليست أكثر من ذراع خشبية في أحسن الحالات .
لذلك اخذت اميركا بالخيار الكردي بوصفه تنظيماً عسكرياً منضبطا لحزب سياسي حقيقي ومتجذر في الساحة الكردية بكل ما ينطوي عليه من مآخذ وتداعيات، لكونه يشكل خطرا على وحدة تركيا التي تضم في المقلب الشمالي من الحدود مع سوريا ما يناهز 17 مليون كردي. وحتى لو ضغطت اميركا وذهبت لحماية هذا الكيان من استهدافات تركيه كما يجري حالياً وذلك إمعاناً في زرع خميرة تقسيمية لسوريا فإنها ستجد أن قابلية الحياة لهذا الإقليم غير متوافرة كونه كيانا داخليا غير مطل على بحر، فيما جميع الدول المحيطة به ستناصبه العداء، وحريصة على محاصرته وخنقه إذا استعصى عليها إزلته من الخارطة السياسية. كذلك تدرك اميركا أن المجاميع التي لملمتها من باب الاستعداد لعملية عسكرية جنوب سوريا لا تملك فرص النجاح، لا من حيث الكفاءة والخبرة او العدد، وأن تدخلا اسرائيلياً لتصحيح الموازين سيشعل حربا مدمرة بين حزب الله والكيان الصهيوني من الجولان إلى الناقورة. وهي لهذا الكيان رحلة في المجهول، يخشاها لأن نتائجها غير مضمونة، هذا إن لم تفض إلى هزيمة عسكرية كما توعدهم سيد المقاومة في اكثر من مناسبة، والاسرائيليون يثقون بكلامه اكثر من تصريحات ساستهم بناءً على تجاربهم السابقة!!.
أما زج الأردن في هذه المواجهة باغراءات ضم جنوب سوريا إليه حيث الوفرة في موارد المياه، فخطوة تنطوي على خفة سياسية، وهي لا تنطلي حتماً على العاهل الأردني ومعاونيه وهم يدركون محاذيرها على امن المملكة، بل ودورها التأسيسي. وأولها استنزاف الجيش الأردني استنزافاً لا طاقة له به مما سيعرض أمن المملكة وبالتواتر "اسرائيل" لخطر سيصبح من الصعب درؤه على امتداد نهر الأردن غرباً حيث "اسرائيل"، فضلاً عن السعودية التي ستصبح واجهتها الشمالية مكشوفةً على امتداد مئات الكيلومترات من البادية الشامية. إلى جنوب البادية العراقية شرقاً، والأخيرة تعني أن ايران ستغدو اقرب إلى السعودية، بل في تماس مباشر معها فيما لو ذهبت الأمور إلى آليات العنف السعودية، ايران قد تصبح على تماس مباشر.

 

 أميركا والاستحقاقات المؤجلة سورياً

 

  اميركا إلى اين؟

 حيال المعطيات السابقة يظل الاستمرار في استنزاف الجميع هو الأنسب من وجهة نظر اميركا ما دامت لم تجنِ حصاده؛ استنزاف محور المقاومة في سوريا، واستنزاف دول الخليج بالفزاعة الإيرانية حتى اصبحت تلك بقرة حلوباً لسد عجز الخزينة الأمريكية بصفقات السلاح، آخرها 300 مليار دولار مع السعودية، ولإذكاء الحروب الداخلية في المنطقة العربية بالمال النفطي. هذا الاستنزاف كان يمكن ان يطوّع الجميع ويذهب بهم إلى "الشرق الأوسط الجديد" الذي خططت له اميركا وذلك في مناخات القطب الواحد، غير أن اميركا ما عادت تتسيد المنطقة، فدخول روسيا إليها بقوة أعاد خلط الأوراق، ثم انسحاب تركيا من الساحة السورية وقد استثارها الطيش الأمريكي الذي عرض استقرار تركيا للاهتزاز، والأبلغ هو تهديد وحدة أراضيها بعد إقامة اقليم كردي شمال وشمال شرق سوريا بحراسة امريكية، الأمر الذي دفع اصواتا تركيه مطالبة بجدوى الخيار الأطلسي!، أما مصر فقد كانت سباقة عندما اختارت سياستها المتمايزة مبتعدةً عما كان مطلوباً منها من استلحاق بدول الخليج كمجرد عضل عسكري لها لقاء أجر على غرار السودان!. وهي في ذلك تنطلق من توجس وعدم ثقة بالسياسة الأميركية التي لا مكان فيها لمصالح العرب. ولعل كلمة الرئيس السيسي في "قمة الرياض" تعكس هذا. ونعتقد بأن اوروبا على الطريق والبداية فرنسية بامتياز نتلمس ذلك من تصريح ماكرون مرحبا بانتخاب روحاني مبدياً حرصه على الانفتاح والتعاون مع ايران، مما سيعني بأن فرنسا لن تجاري بعد اليوم أميركا في فرض عقوبات على ايران فيما لو أرادت اميركا لحس توقيعها على الاتفاق النووي المبرم مع طهران. والخلاصة أن اميركا لا تملك عناصر متماسكة تمكنها من تحقيق انجاز سياسي في سوريا، فيما العكس صحيح عند الجانب السوري حتى وإن تمكنت اميركا من تأخير النتائج. إنها مسألة وقت.

 

2017-05-26