ارشيف من :آراء وتحليلات
-مفارقات وتناقضات من قمم الرياض
لعل الهالة التي أحيطت بها زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب الأولى للمملكة العربية السعودية، والقمم الثلاث التي عقدت بحضوره ومشاركته، لم تكن مسبوقة، وذلك لاسباب ودواعٍ كثيرة، لن نخوض ونستغرق في تفاصيلها الدقيقة، وجزئياتها المملة.
بدت تلك الهالة في مجملها، وكأنها فيلم استعراضي احتكر فيه البطولة شخص واحد، مع عشرات الممثلين الذين أدوا ادوارا هامشية وثانوية "كومبارس" مجانا.
كان البطل الاوحد في ذلك الفيلم الاستعراضي، هو الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وفي الواقع لم يكن الاخير يمتلك من الميزات والخصائص ما يؤهله لأن يكون كذلك، رغم أنه عرف عنه خلال محطات حياته المختلفة إجادته فن الاستعراض بأوجهه وصوره المتعددة. ولكن اريد له ان يكون البطل الاوحد حتى يعطي للصورة رونقها وجاذبيتها واثارتها.
واذا كانت الصورة بالنسبة للكثيرين جاذبة ومثيرة ومشرقة في جانب منها، او في بداية تشكلها، فانها ظهرت عكس ذلك تماما، بعدما انتهى العرض، واسدل الستار، وانفض البطل الاوحد والكومبارس والاخرون، وغاب الصخب والضجيج.
دخل دونالد ترامب المملكة العربية السعودية بتحضيرات واستعدادات كبيرة، كلفت اموالا طائلة، وحظي باستقبال حاشد، ربما لم يحظ به زعيم اخر من قبل، وكان في استقباله كبار الساسة والمسؤولين السعوديين دون استثناء، وفي مقدمتهم الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي بدا انه تحامل على نفسه كثيرا، وتحمل مشقة الجهد الاضافي، وهو في سن متقدمة ويعاني من امراض شتى، حتى يتشرف باستقبال البطل الاوحد، بينما جاء زعماء دول عربية واسلامية الى السعودية وغادروها، دون ان يشعر بهم احد، ولان الجميع كان منشغلا بترامب وزوجته ميلانيا وابنته ايفانكا وزوجها المستشار جاريد كوشنر، ومن حسن حظ هؤلاء الزعماء، ان وجدوا في استقبالهم بالمطار موظفا صغيراً من وزارة الخارجية السعودية، او البلاط الملكي!.
وتحدث ترامب طويلا امام الزعماء المدعوين حول الارهاب والسلام والاسلام والاستقرار في المنطقة والعالم، وكيفية التنسيق والتعاون بينهم، بيد انه لم يستمع الا لاحاديث وكلمات وخطب عدد قليل منهم، لانه لم يتح لاغلبهم ان يرتقوا منصة الخطابة، ليقولوا ما يريدون قوله، والانكى من ذلك فأن من اراد ان يتحدث الى ترامب بشيء ما، كان عليه ان يحصل على موعد مسبق معه ويذهب اليه حيث يقيم!.
وفي الاطار العام، كان واضحا الى حد كبير ان ما شغل ترامب، وركز عليه كثيرا، هو ما سيحصل عليه من اموال طائلة من السعودية وغيرها من دول البترودولار، وبالفعل فان ما ابرمه من اتفاقيات مع السعودية لوحدها، والذي بلغ اكثر من اربعمئة مليار دولار بصورة استثمارات سعودية في الولايات المتحدة الاميركية، بعضها يتم ضخه مباشرة وبعضها الاخر يمتد على عشرة اعوام، يؤشر الى اولويات ترامب واهتماماته.
وربما يقول ترامب في سره، او للمقربين منه همسا، "انني يمكن ان انجح كتاجر ورئيس".
وبينما سيزداد ضخ الاسلحة الاميركية المتطورة للسعودية، وسط ازمات مالية خانقة، وانحسار وتراجع فرص وافاق التنمية والنهوض، واتساع معدلات البطالة والفقر وتدني مستويات التربية والتعليم فيها، راح ترامب يبشر مواطنيه الاميركيين، وهو يجول في المنطقة بفرص العمل، ويردد "وظائف.. وظائف.. وظائف"!.
واذا كان هناك شيء اخر قد شغل حيزا كبيرا من اهتمامات الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الى جانب الاموال السعودية-الخليجية، فهو ادانة ايران والسعي الى محاصرتها وتضييق الخناق عليها وتعبئة وتحشيد العالم ضدها، ارضاء للسعودية و"اسرائيل"، لذا لم يك غريبا ان يتردد اسم ايران حوالي الف وخمسمائة مرة في خطب وكلمات وتصريحات من تحدثوا في قمم الرياض، في حين لم يذكر تنظيم داعش والقاعدة سوى مرات قليلة.
وثمة امر يبدو غريبا، ويتناقض مع العنوان الواسع والعريض "القمة الاميركية-الاسلامية"، الا وهو غياب دولتين اسلاميتين كبيرتين، ولهما ثقلهما وحضورهما في المشهد العالمي، وليس الاقليمي فقط، وهما ايران وتركيا، كيف لقمة يراد لها ان تخرج بحلول ومعالجات، ورؤى وتصورات عملية وواقعية لمشاكل وازمات المنطقة والعالم الاسلامي، ويغيب او يغيّب عنها من هو ان لم يكن جزءا من المشكلة فهو جزءا من الحل؟.
لا شك ان هذا الامر، يؤشر الى فشل واخفاق، واعادة تدوير للمشاكل والازمات، بل واكثر من ذلك، تعميق للخلافات والعداوات، وتكريس للتقاطعات والاحتقانات، انطلاقا من عقد طائفية، وحسابات ضيقة.
ولمن لم يقرأ المعطيات والمؤشرات بعمق مبكرا، فان له ان يتوقف عند الخلاف القطري-السعودي، الذي تفجر بعد وقت قصير من قمم الرياض، وبات ينذر بتصعيد خطير، قد يحتاج الى تدخل اطراف خارجية مؤثرة لاحتوائه وتطويقه، بعد ان وصلت الاتهامات السعودية لقطر بالتحالف مع ايران، ودعم حزب الله والحوثيين، والتآمر على البحرين.
والمفارقة هنا هي ان قمم الرياض، بدلا من ان تحل وتعالج ازمات ومشاكل المنطقة افرزت مشاكل وازمات اخرى، غير معلوم الى ما ستؤول اليه من نتائج واثار كارثية.
باختصار شديد يمكن القول ان السعودية انفقت وستنفق مليارات الدولارات، بعد القمم الثلاث، لكنها لم-ولن- تضمن امنها، ولم تتيقن من المحافظة على اقتصادها، ولم تنه عداواتها، ولم تصف -او تصفر- ملفاتها الشائكة مع الاخرين، واكثر من ذلك كله، وجدت نفسها بعد برهة من الزمن غارقة في صراعات ومعارك على جبهات اخرى.. فهل هناك حماقات اكثر من تلك الحماقات؟.