ارشيف من :نقاط على الحروف
السنوات العجاف
أحمد فؤاد
سنوات كبيسة ثلاث مرت من حكم الرئيس الضرورة في مصر، حولت الوطن لدليل فشل مُعاش كل يوم، وفي بدايات العام الرابع، تحول البلد كله الى قطعة من الجحيم، لا تكاد ترى فيها أملا أو حتى رد فعل، إلا القدرة الثابتة على دهس ما تبقى من آدمية الفقراء.
إصلاحات مزعومة تعزز الخراب، وتقتطع من إمكانية بناء مستقبل، وتقتل الانتماء الباقي في أرواح البعض، تكبل المستقبل بالقروض التي لا تعرف حدودًا تقف عندها، وتغيب الانتماء بمحاباة رجال المال والسلطة، وتعزز الخراب بإفساد عناصر المجتمع ودفعها دفعًا للصدام بفعل ضغوط معيشية غير محتملة.
لا يحصل أغلبية المواطنين المصريين على وجبة غذائية كاملة، تمنعهم الأسعار ورداءة المنتج المحلي أو فساد المستورد.
منذ شهور ثارت عالميا قضية فساد شركات "دواجن برازيلية"، كانت مصر هي المستهلك الأكبر لها، ولم نسمع عن إحالة مسؤول واحد لمحاكمة، من باب ذر الرماد في العيون، وانضمت القضية لرشوة مرسيدس وغيرها من القضايا التي تطال الأسماء المرتبطة برجال الحكم ومن حولهم.
المتابع غير الجيد لخطابات الرئيس المصري، يلاحظ فورا غياب نبرة الأمل المسيطرة على الرجل في أول عامين لركن خفي، يسيطر على "السيسي" ومن خلفه خطاب الصبر والصومال، التي استعان بها الرئيس نفسه في خطاب شهير بدلا من سوريا والعراق.
تراجعت الأماني إلى أحلام، وتحولت الأحلام إلى مستحيلات، والمستحيلات لا تتحقق هنا.
رأس الدولة المصرية مصمم على تبديد أخر أمل للمصري -العادي- في دولته، محولًا الوطن إلى تيه ممتد، وتشهد وجوه الناس في المواصلات شبح القهر المخفي في النفوس، مع تلظي القبضة الأمنية، وغباء الممسكين بمفاتح الحل والعقد.
الإفراط في التشاؤم تجاه نهاية المسار الحالي ليس سخفًا، لكنه رؤية صادقة لشخص يجيد تبديد أرصدته وبعثرة مصادر قوته، شخص يرتبط أكثر ما يرتبط بـ"النحس" في كل خطواته ومشاريعه، حتى أن مشروعات الاستزراع السمكي التي كانت تدر ذهبًا على أصحابها رفعت أسعار الأسماك، حتى وصلت لأرقام فلكية في شهر إبريل الماضي، جعلت من الأسماك وجبة للطبقة المقتدرة فقط.
"السيسي" يذكرنا بأسطورة "ميداس" الذي كان يلمس التراب فيحيله ذهبًا، لكن الرئيس يحوّل الذهب إلى هباء منثور.
يجذر الرئيس في عامه الثالث أيضًا مخاصمة الشارع، وخلال مؤتمرات باهظة التكاليف والتأمين، تتخللها مشاهد تمثيلية، فشل السيسي في تأديتها، تحول كل ظهور إلى فرصة للسخرية و"التنكيت" على مواقع التواصل الاجتماعي كلما أطل سيادته على النخبة المنتقاة بعناية من أجهزة أمنه.
ولم يكن الأمر كذلك حين علا نجمه في سماء المحروسة، فقد كان انتقاده، ولو كان انتقاد المحب، يجلب على صاحبه أزمة مع أقرب مواطن، الآن لو نطقت اسمه في وسيلة مواصلات لسمعت سيلًا من الأدعية الحارة الموجهة كسهام من ألم وحسرة.
في أصعب وأقسى سنوات مبارك، خلال مواجهات الإرهاب الطاحنة في التسعينيات، لم يقف الناس على أرضية تموج بكل هذه الصراعات، لم يكن الواقع بكل هذه الوقاحة، ولم يتحول الوطن لمكان طارد لكل بنيه، كان هناك الحد الأدنى من الإدراك لدى الفاعلين بالدولة للخطوط الحمراء.
ورغم كل ذلك، يهوى أعضاء كتائب النظام الإلكترونية، مقارنة زعيمهم المختار بالرئيس عبد الناصر خصوصًا، بما يحمله في وعي المصريين بالمحارب الصلد والمدافع الأول عن الفقراء، لتتحول المقارنة لـ"مسخرة"، حين تصبح بين من صنع أقداره ونقش تاريخه، وفرض زعامته على الدنيا بأسرها، ومن ركب موجة سانحة، ودُفع دفعًا لكرسي خاو، وقيادة دولة لم تُبقِ فيها سنوات التجريف أحدًا يصلح للمنصب الأرفع.
اكتشف المصري بعد سنوات ثلاث أن الضرورة تبيح المحظور، لكنها لا تقيم المستقبل، تبني جدارًا مؤقتًا لكنها ليست بديلا عن العمل الجاد ونبذ التبعية للأجنبي والارتهان للمستثمرين أبناء الانفتاح.
المجتمع المصري الآن يموج بتغيرات ناتجة عن ضغوط لا تحتمل، ضغوط المعيشة يضاف إليها إحساس التفريط في الأرض، سيؤديان لخروج غير محسوب، خروج بلا ضابط يمنع الانفجار الكامل.. فهل تعي الدولة المصرية أنها سائرة إلى طريق بلا عودة؟