ارشيف من :نقاط على الحروف
كامب ديفيد.. درب الضياع
أحمد فؤاد (*)
مر 38 عاما على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني، اتفاقية الانبطاح والتذلل، قلْ فيها ما شئت وزد، ورتل عيوبها ترتيلًا، لأنك لن تجد مجتمعًا بشريًا تطوع بالركوع تحت قدمي عدوه الأول بكل هذه اللذ كما حصل في كامب ديفيد.
ضاعت مصر تماما في تيه ممتد، فراغ كامل يطل على مستقبل أسود، على كل الأصعدة، بداية من الوزن الإقليمي الذي ضاع يوم حوصرت بيروت وسقطت بغداد، وانتهاء بالمجتمع الذي تفسخ، وصار القتل على الهوية والمذهبية والدين أمرًا حاضرا في الشأن اليومي المصري.
الشأن الاقتصادي مهم في حساب معادلة كامب ديفيد، كون الاقتصاد كان هدفًا منذ التسلل الأمريكي- الصهيوني لمصر، والذي تم على يد صندوق النقد الدولي، وبأموال المساعدات العربية، التي كانت تكمل خطوات لا يستطيع الناهب الأمريكي وحليفه الصهيوني القيام بها بنفسه، خلال فترات سابقة، ولأن الأرقام بطبيعتها فاضحة للتراجع الرهيب في إمكانيات وحسابات مصر الدولة.
نزفت مصر في أربعة عقود خيرة عقولها، بالهجرة إلى الغرب، وأضاعت قوة أياديها العاملة في صحارى الخليج، وعادت لتشد المجتمع معها إلى ماض سحيق مظلم، يرى الحضارة كفراً، والآثار المصرية القديمة هدفاً للتدمير أو البيع. تم هذا بيسر وبلا تغطية إعلامية، بهدوء عبر السنوات تم غسيل العقل المصري تمامًا.
الرئيس الأول، السادات أو الساداتي كما تقول أصوله وسيرته، أعاد في السبعينيات الطغمة الفاسدة التي ارتبطت دوما بناهب خارجي، لينقضوا كالضباع على تركة يوليو، بعد غياب قائدها، وعقب تخدير كامل للإنسان المصري.
استهدفت الشرذمة العائدة إنجازات "عبد الناصر"، الى جانب استهدافها للشخصية المصرية، خططت لتدمير القطاعات الحقيقية للاقتصاد المصري، من زراعة وصناعة وبنية تحتية، فشهدت الأراضي الزراعية اعتداءات لم تحدث طوال تاريخها، وفقدت مصر في عقود، ما يوازي مئات السنوات من جهود الاستصلاح، ما يقدره بعض الخبراء بنحو 1.2 مليون فدان.
وبدلًا من تغني الفلاح المصري بأنشودة "عواد باع أرضه"، التي كانت أحد المأثورات الريفية وخلدتها إذاعة مصر الستينيات، صار عواد بطلًا لأحلام الفتيات، وشنت السينما والإعلام حملات ممولة للسخرية من الريف وأهله، ووصمهم بكل نقيصة ونكتة، حتى صارت كلمة فلاح "سُبة".
الجمعيات التعاونية الزراعية كانت هدفًا ثانيا لغزو صهيوني برعاية "الساداتي"، فتم إفسادها وتخريبها، لتبرير عمليات التخلي عن دعمها من الدولة، وإظهارها ككيان عدو للفلاح، ونجح أيضًا في ذلك، بمساعدة تدفق أموال البترودولار مع العائدين من الخليج، وضيق الرقعة الزراعية على الزيادة السكانية.
اعتمدت الحكومات المتعاقبة على سياسة واحدة تخص الزراعة والصناعة، وهي سياسة التخسير المتعمد، ففي مصانع القطاع العام التي جرى تجهيزها لسيف الخصخصة، كان يجري تعيين الفشلة واللصوص في أعلى المناصب، لتسريع عملية الفشل، وتبرير التخلص من الشركات بأبخس ثمن.
في الزراعة أيضًا تم اعتماد أسلوب شراء المحاصيل من الفلاح بدراهم معدودات، بأقل القليل مما لا يغطي التكلفة الحقيقية، واستكملت المأساة فصولها مع شراء الحكومة للمحاصيل لا يغطي تكلفة إيجار الأرض وتجهيزها وثمن التقاوي والزراعة والري والأسمدة والمبيدات والحصاد والنقل، باختصار، رسخت حكومات "كامب ديفيد" في الريف مبدأ: "الفلاح الذي يزرع يخسر".
ونشرت الحكومات ادعاءات واسعة عن دعم هائل للفلاحين، عن طريق بنك التنمية والائتمان الزراعي، الذي منح الفلاحين قروضًا بفوائد مضاعفة، ولم يتوان عن مقاضاتهم وسجنهم، بسبب فشل إدارة الحكومات للعملية الزراعية في مصر.
بطول سنوات حكم "رؤساء كامب ديفيد" جرى الاستعانة بالخبرة الصهيونية في الزراعة، مرات ومرات، ولعل أبرزها في عهد المخلوع مبارك، وعلى يد وزير زراعته يوسف والي، الذي جذب مهندسي الكيان إلى مصر، وأرسل مهندسي مصر الزراعيين إلى الكيان في رحلات للتعلم. دولة علمت الدنيا الزراعة صارت تعتمد على كيان إجرامي عدو، وكانت النتيجة الحتمية، بالإضافة لانهيار الزراعة تمامًا، انتشار أمراض السرطان والكبد بين المصريين بصورة غير مسبوقة.
سقطت مصر كلها يوم وقّع "المؤمن" على الكامب، ولن تقوم إلا بدفع ثمن تحرير الإرادة، كما دفعه الآباء في 1956.
(*) صحافي مصري