ارشيف من :نقاط على الحروف
عن حرب تموز: جهاد القلب.. ليس أضعف الإيمان
كان الوقت فجراً، حينما اهتزت أصابعهما أكثر مما يهتز المنزل بهم جميعاً. فيما تكاد أسنانهما الصغيرة تقضم البطانية التي تغطيهما. والجميع اللواتي كن قبل ثوانٍ يمثلن أنهن نيام -تحشرهن فُرش متلاصقة- جلسن. تقول إحداهن: "سكريلن دينيهم أحسن". لكن ذلك "الأحسن" لم يكن ينفع. جربت الأم مع طفليها التوأمين مراراً وعبثاً، طوال الحرب، أن تحول دون أن تسمع آذانهما أصوات الطائرات الحربية الصهيونية وأصوات الحقد الذي تلقي به على منازل الآمنين وعلى الطرقات وفي كل مكان. كان قد علق في ذهن الطفلين ما رأياه من جثث الأطفال أمثالهما يصبغها لون أحمر ملوث بكثير من لون الركام.
كان ذلك المشهد غريباً على طفلين لم يقضيا من العمر سوى أربع سنوات. مشهد تسلل إلى ذاكرتيهما من خَلف الشاشة، وخلَّف ما خلّف فيها من ألم، حتى صار عضّ البطانية أمراً حتمياً حالما سمعا صوت الطائرات الحربية، فأسلحة الأطفال البلاستيكية التي لعبا بها لعبة الحرب لم تهيئهما لحرب حقيقية، ولم تعلمهما أن الحرب حقد ودماء وأشلاء.
السكنى في هذا البيت كانت أمراً مفروضاً، على الرغم من أن منازل النازحين إليه لم تبعد كثيراً عنه. إحدى من خبرن الحياة وملَكنَ قلباً متيناً كانت تحاول تلهية الأطفال عن جلبة الحرب، توزع عليهم تارة نسخاً من القرآن الكريم وتحفزهم على القراءة أو التمسك به مُنجياً، وطوراً تجمعهم حولها للدعاء لنصرة المجاهدين وحفظهم وحفظ قائدهم المفدى، أو تحكي لهم قصصاً لا تنتهي عن الدجاج والثعالب. شيء من تراث الأجداد، وشيء للتو تم تأليفه توافقاً مع الضرورة. وكان يبدع الأطفال -انسجاماً- في اختيار ألوان الدجاج، ومنعاً لتكرار الألوان اختارت لهم مرة قصة عن دجاجة "رُزِّيّة" (ريشها منقط بلون الأرُز)، لون أضفى مدة ثلاثة وثلاثين يوماً ضحكة على الوجوه البريئة، التي تعرفت للمرة الأولى على هذا اللون الجديد، كما جميع الذين سمعوا الحكاية.
اختراق القذائف لقصص الحاجّة لم يكن يربكها، تجهّز على الفور ما يهدئ روع جمهورها المستمع، على غرار : " إجا الموتير يعبي مي للجيران"! تقول ذلك بنغمة طفولية، مع ابتسامة ترفع معنوياتهم. تماماً كما فعل صوت السيد حسن نصر الله (دام عزه) في قلوب المنتظرين له حين قال: "انظروا إليها تحترق"، وتماماً كما فعلت إطلالاته كل مرة. فكأنها كانت تزيد العزم عزماً وترسخ الإيمان أكثر.. كلماته كانت تربت على كتف النازحين والمدمرة بيوتهم وتوحي دائماً بأن النصر آت..
تلك الحاجّة الأربعينية آنذاك،التي لا تحبِّذُ البوح باسمها، لم تكن ترفع معنويات الصغار فحسب، بل وزعت من روحها شيئاً من الأمان على الحي، حتى طلبها الجميع للمبيت في منازلهم لِيَنالهم بعض من عزيمتها يضيفونه إلى عزيمتهم. فتترك زوجها -الذي لم تره إلا يومها في ثياب الحرب حاملاً عتاده- وتتنقل بين بيوت الحي، معتبرة ذلك واجباً يوشك أن يوازي ما يفعله الرجال في الميدان.
ممازحاً شبّهَها زوجها مرة بـ "المضاد" (مضاد الطائرات الحربية) كأنها مثله حيثما حلت انتفت قدرة الطائرات وصواريخها، وحل معها شعور بالطمانينة متأتٍ من قوتها الذاتية أولاً، ومن أحاديثها اللطيفة وكلامها -بأسلوبها المقنع وبيقين- عن حُسنَيي خاتمة الحرب: النصر والشهادة، الأمران اللذين لم تكد تميز بينهما، هي التي طالما تمنت أن تكون يوماً خادمة المجاهدين في خطوط الدفاع الأولى، وهي التي طالما رأت أبناءها ببذاتهم العسكرية وودعتهم دون أن تفسح مجالاً لقلبها أن يذرف دمعة واحدة لا حين الوداع ولا في غيابهم ولا حين تشم طيب روائحهم عائدين من واجبهم في الدفاع عن الأرض والعرض. وكم يحلو لها أن تودعهم بقبلاتها الحارة وعبارة "الله يرضا عليكن يمي، ما تفكروا اذا استشهدتوا بزعل. إذا ما كنتوا قدها ما ترجعوا لعندي".