ارشيف من :آراء وتحليلات

عصر تهميش الجماهير وأثر كرة الثلج!

عصر تهميش الجماهير وأثر كرة الثلج!

كم كانت الجماهير تشكل ثقلا في معادلات التوازنات السياسية، وكم كان الرأي العام محط انظار السياسيين ومحط انظار ادوات الانظمة العالمية والاستخبارات الدولية لما يشكله من طرف اساسي في صناعة القرار وتخطيطه وحسابات عواقبه.
ما نراه اليوم يبدو انه مرحلة لاحقة لتزييف الوعي وبلبلته وتشتيته، وبالتالي الاجهاز عليه او على الاقل اصابته بالشلل مما ينتج عنه شلل في الحركة وبالتالي تحييد الجماهير وتعطيل هذا الطرف الوازن في السياسة.

عصر تهميش الجماهير وأثر كرة الثلج!


تلفت بعض الاحصاءات في البلاد التي يعتبرها العرب متقدمة، الى مفارقات تكاد تكون مضحكة، حيث التقدم التكنولوجي لا يصاحبه تقدم ثقافي بالضرورة او تقدم في الوعي، طالما استغلت التكنولوجيا في الهيمنة والاستعمار وكوسيلة لجني الارباح.
ففي الولايات المتحدة، أسفَر مسحٌ للرأي العام الأمريكي أجري عام 1964م عن أن 25% من الأمريكيين يجهَلون أن الصين الشَّعبية تحكُمُها حكومةٌ شيوعية، وأن الولايات المتحدة داخلةٌ في حرب فيتنام في ذلك الوقت، وعلق الدكتور لويس جنسن في دراسة له رصد بها هذه الاحصائيات بأنه في أغلب الأحوال يهتم الجمهورُ العام بالأخبار الداخلية على حساب اهتمامِه بالأخبار الخارجية، مضيفا ان هذه الظاهرة ليست مقصورةً بحال من الأحوال على الأمريكيين؛ فقد أوضح مسحٌ للرأي العام الياباني عام 1967م أن حوالي ثلث أفراد العينة لَم يكن يعلَمُ بوجود حكومة شيوعية في الصين، كما أن حوالي نصف أفراد العينة كانوا يجهَلونَ أن اليابان في ذلك الوقت لم تكُنْ لها علاقاتٌ دبلوماسية بالصين، أو أن الصين الشَّعبيةَ لم تكن آنذاك عضوًا في الأمم المتحدة.
وتوصَّلت دراسةٌ أخرى إلى أن 27.1% من الألمانِ الغربيين، و16.9% من الإنجليز، 11.9% من الفرنسيين، و8.7% من اليابانيين، و4.4 من الإيطاليين " فقط هم المهتمُّون جدًّا بالشؤون الدولية".
مقارنة مع وطننا العربي واقليمنا وبرغم الفوارق العلمية والتكنولوجية في هذه الفترة، الا ان كل بيت عربي كان ملما بالقضايا الدولية ويعرف عدوه ونشأته ويعرف طبيعة الصراع ومن يدعمه ومن هم عملاء الداخل ومن هم الاصدقاء الحقيقيون للقضية، وقد كانت انظمة التحرر الوطني حريصة على اشراك الجماهير لانها تعلم جيدا مدى قوة الجماهير ومدى تأثيرها ولانها كانت في معركة حقيقية وصادقة.
مَن اليوم يعمل على تعبئة الجماهير؟ ليست مصادفة ان نرى معسكر المقاومة هو المهتم بالتعبئة الجماهيرية وان المعسكر الاخر مهتم بتزييف الوعي لقطع الطريق على هذه التعبئة وتشتيت شملها.
والمتأمل يرى ان المقاومة فعل وان معسكر العمالة والمتحالف مع معسكر المهادنة هم رد فعل، وهي رسالة مطلوب ان تصل لبعض القطاعات في جماهير المقاومة والتي يتسرب اليها بعض من الظن ان معسكر المقاومة في الطرف الاضعف والاقل عدة وعتاداً وانه يناضل حتى اخر رمق له قوى كبرى لا قبل له بها!
لا بد وان يعلم جميع المقاومين انهم في الطرف الاقوى وان اعداءهم يهابونهم وانهم في مجال رد للفعل، وان المبادرة دوما للمقاومة، وعندما تنشغل مراكز الدراسات الدولية ووكالات الاستخبارات بالتخطيط لقطع طرق تلاقي المقاومين ومحاصرتهم وايذائهم، فليس ذلك الا دليل على قوة المقاومة ومدى الرعب اللاحق بالمستعمر منها ومن خطورتها ليس على مشروعه فقط بل على وجوده.
تبدو امريكا والكيان الاسرائيلي وتوابعهم في دول الخليج مرتاحون الى حد كبير بسبب تهميش الجماهير وتحييدها بعد عقود من حرف الصراع ومفهومه واستعداء المقاومة وخلط الثورات بالحروب بالوكالة وخلط مفاهيم الوطنية بالاستبداد وخلط مفاهيم القومية بالوحدة تحت راية العمالة.

عصر تهميش الجماهير وأثر كرة الثلج!


ولكن الامور ليست بهذه البساطة فان هناك حالة يعرفها المتخصصون في قياسات الرأي العام تسمى "أثر كرة الثلج"، وهذه الحالة ببساطة تعني ان بعض الحملات تأتي بنتائج عكسية، فإن كرة الثلج الكبيرة المغمورة بالماء يبدو جزء صغير منها على السطح، وعندما تشن الحملات لاستهداف هذا الجزء الصغير تصل الحملات للجزء الاكبر المغمور، ويفاجأ صناع الحملة بأن هذا الجزء يعادي هذه الحملات وان كل ما جنته هذه الحملات هو استعداء هذا الجزء الكبير واخراجه من مكمنه فتأتي النتائج عكسية.
ما نراه ونأمله ان الجانب الاكبر من كرة الثلج الجماهيرية يعلمون اعداءهم وان الانتهازيين والمرتزقة والجهلاء لا يشكلون الا  الجزء الظاهر من هذه الكرة، وان تكثيف حملات الهوان والتطبيع وسياسات التبعية الاقتصادية لن يؤدي الا الى مزيد من استعداء الجماهير المشكلة للجزء الاكبر من كرة الثلج، وسيصل الاستعداء الى النقطة الحرجة لكسر هذا الصمت، وستكون العواقب وخيمة على من عملوا على تمهيش الجماهير وزجهم تحت الماء وفرحوا بهذه الحالة.
ان الانظمة الوطنية التحررية المقاومة سلاحها دوما جماهيري، اما الانظمة العميلة التابعة الخانعة فسلاحها هو تهميش هذه الجماهير، والحالتان تدلان على اتفاق على قوة الجماهير وفعاليتها كسلاح جبار.
برغم ما نراه من هوان وما نشعر به من حسرة في عصر تهميش الجماهير الا ان رهاننا دوما على الجانب المغمور من كرة الثلج والذي لن يتحرر تحررا ايجابيا بفعل الحملات فقط، وانما بضرب المثل والقدوة في المقاومة، لكي يشكل ذلك بوصلة سليمة تضبط حركة الانفجار الجماهيري الوشيك.

(*) كاتب عربي من مصر

2017-07-25