ارشيف من :آراء وتحليلات

لا تسأل الرئيس!

لا تسأل الرئيس!

 أحمد فؤاد
في فترة قريبة ماضية يشع منها نور الأمل حتى عصرنا الحالي، أيقنت الدولة المصرية أن التصنيع حجر الزاوية في عملية التنمية الاقتصادية. هكذا قامت النهضة الغربية منذ الثورة الصناعية، وهكذا صعد نجم اليابان والصين في الشرق، وتم تطبيقها في مصر منتصف الخمسينيات لتخلق قلاعا صناعية شامخة، لا تزال أطلالها شاهدة على إمكانيات أمة تريد وتملك قرارها.

لا تسأل الرئيس!


قامت الثورة المصرية في يوليه 1952، ومصر لا تملك أكثر من بعض المصانع الصغيرة للغزل والنسيج في مدينة المحلة الكبرى، أسسها الصناعي المصري طلعت حرب. ومع مرور السنوات بلا تطوير أو إضافة تحولت إلى ورش كبيرة تفتقد الآلات الحديثة أو العمالة المدربة، في ظل احتلال غاشم ونظام ملكي تابع، ورأسمالية محلية مؤمنة بأن استمرارها مرهون ببندقية الاحتلال.
حاولت الثورة في سنيّها الأولى التصالح مع الرأسمالية المحلية، ومنحها التسهيلات، مع دخول الدولة إلى حقل الإنتاج والخدمات، وأسس عبد الناصر مجلسا أعلى للإنتاج والخدمات. لكن الشاب الثوري، الذي مثّل أحلام شعبه وكان موضع آمال ناسه، كان يجدد فكره وينهل من تجارب عالمية لتصنيع البلد، منطلقًا من علاقات تشبه العبودية سادت المجتمع المصري.
لا جدال أن «عبد الناصر» في بداية الثورة كان مفتونًا إلى حد ما بالنموذج الأمريكي والغربي عمومًا، وساعده دورهم في مفاوضات الجلاء مع بريطانيا، واستعدادهم لتمويل السد العالي. لكن الثابت أن الشاب الثائر لم يقبل أن يقود وطنه من احتلال غاشم إلى احتلال ناعم، ولم يحن رأسه ليلعب دور التابع، وهو دور سهل وقتها، مع التنافس الذي حكم قمة العالم.
فهم عبد الناصر بحسه الوطني أن التبعية عبودية. علم بالتجربة والممارسة أن رأس المال الأجنبي لصوصي الطابع، يدخل ليمتص خيرات الشعوب ويكسر قدرتها على الإنتاج ويحطم ما كرسه النمو من ثمار، والأخطر أنه يمسخ الشخصية الوطنية، ويقتل إمكانية خلق نموذج مستقل، يستند في وجوده إلى إرادة وطنية.
فهم الشاب صاحب الـ34 عامًا فقط ما يجهله خريجو التعليم الأمريكي والجامعات الغربية. أيقن بفطرته الوطنية ما عجزت عنه حكومات ابتلي بها الوطن طوال 47 سنة سوداء منذ رحيله.
مصر مع الصين والهند كانت إحدى ثلاث دول في الجنوب تمتلك قاعدة صناعية وطنية مستقلة، قاعدة تمكنها من خنق وحصار التخلف، وتسمح بضفاف فسيحة من الأمل في المستقبل، أمل مشروط فقط بالإرادة، وليس برضا حليف غربي أو تدفقات رأس مال أجنبي.

لا تسأل الرئيس!
طبق «عبد الناصر» استراتيجيات التنمية التي طبقتها كل الدول الناجحة


طبق «عبد الناصر» استراتيجيات التنمية التي طبقتها كل الدول الناجحة، والتي ارتكزت على شعار «التصنيع للتصدير»، ووضع النظام المصري السياسات الاقتصادية اللازمة لنجاحها، وبالتالى فتحت آفاق دائمة للنمو أمام القطاع الصناعي، ولم تهتم بتصدير المواد الخام إلا نادرا، لتبني مستقبلًا قائمًا على الاستمرارية والتطور، وكانت الأسواق العربية والإفريقية شاهدة على مدى ما وصل له النمو الصناعي المصري الهائل في فترة الستينيات.
كوريا الجنوبية التي تمثل الآن واحدة من أهم اقتصاديات العالم الصاعدة، كانت تلهث وراء مصر في الستينيات. مصر المغامرة التي وزعت جيشها في سهول الكونغو وجبال اليمن وضفة قناة السويس كانت قادرة –بالأرقام استنادًا إلى تقارير البنك الدولي- على تحقيق نمو يعز مثيله على أغلب دول العالم، وتفوقت القيمة المضافة للصناعة التحويلية في مصر على كوريا الجنوبية في بداية الستينيات، وتساوت معها في منتصف الستينيات، ومثلت 78% منها عام 1970.
دخلت مصر خلال الفترة 4 حروب (56 واليمن والنكسة والاستنزاف)، وتحمل القطاع العام أعباء بناء الجيش مرتين، وتجهيزه لحرب 73، بينما كانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية تعمل على خلق «اقتصاد مثال» من خلال تحويل كوريا الجنوبية إلى دولة تتمتع بالرخاء، كسلاح دعائي ضد دول الكتلة الشرقية.
لكن الأهم في ملامح التجربة المصرية عبر عقدين من الزمن، كان التركيز على التنمية البشرية -غير تنمية الموارد البشرية البائسة-، وتم وضع أبعاد ثلاثة لاستراتيجية تنمية الإنسان، عبر الارتقاء بمستوى الدخل، ونشر المعرفة، وتطوير الرعاية الصحية الشاملة، لتكتب فصلا متميزا في التنمية القائمة بالإنسان للإنسان، تنمية تعتمد على العنصر البشري بصفة أساسية، وترد إليه ثمرة مجهوده، عبر آليات توزيع عادلة للدخل والخدمات والرعاية، وبالتالي كان الضامن الأول للنجاح هو المجتمع وليس الحكومات أو الأنظمة.
ومع تحول الاقتصادات المتقدمة من الاقتصاد الصناعي التقليدي، إلى الاقتصاد القائم على المعرفة، وتطور نظريات النمو من الاعتماد على رأس المال المادي والتكنولوجيا وقوة العمل، إلى النمو المرتكزعلى المعرفة ورأس المال غير الملموس وقوة العمل المعرفية، وهو ما استطاعت الصين تحديدًا تجاوزه استنادًا لامتلاكها قاعدة تكنولوجية، ما أهلها الآن لتكون فرس رهان قيادة مستقبل العالم اقتصاديًا.
وفي الستينيات كان دور الجامعات أعمق من مجرد التعليم كما هو قائم حاليا، بتجاوزه إلى البحث العلمي والابتكار وخلق المعرفة والتقنية، ونقلها إلى المجتمعات المحيطة وقطاعات الأعمال المختلفة، التي تبقى على رأس تحديات التحول إلى عصر جديد فوّتنا آلياته عمدًا مع سبق الإصرار على الغرق في إدانة ماض ملهم.
الأمم تنظر للماضي لتتعلم، ونحن حولنا ماضينا إلى شماعة للفاشلين واللصوص.
باختصار اتبع «نظام يوليو» ما يعرف بالتخطيط الاقتصادي على المستوى الوطني، حيث تم حشد الموارد وتخصيصها، للوصول إلى الأهداف الوطنية حسب الأولويات التي يُتفق عليها، أي أن الدولة قادت عملية التنمية، ولم تترك مستقبلها رهنًا لأصحاب رؤوس الأموال، ولم تخضع في أي مرحلة خلال مسيرتها لقيود واشتراطات البنك والصندوق الدوليين.
انطلق عبد الناصر في تأسيسه لنظام يوليو من المواطن، عمل لصالحه وصالح أبنائه، فظل يمثل الحلم والمشتكى والعزاء لكل من يشاهد واقعًا يغتر فيه نظام حكم بتبعيته وبيعه لأصول الوطن وارتهان مستقبله للقروض الدولية.

(*) صحافي مصري

2017-07-26