ارشيف من :نقاط على الحروف
لكنها فلسطينية وليست مقدسية..
حين أستولي بالقوة على منزلك، ثم أسمح لك بالصلاة فيه، هل ترضى؟ وهل ستحاول استرداد منزلك أم الغرفة الأحب على قلبك؟ ولو افترضنا جدلا أن العدو الصهيوني قبل ذات يوم بدولة فلسطينية مقطعة جغرافيا، ومختنقة سكانيا، ومحاصرة اقتصاديا، وكانت القدس الشرقية ضمن حدودها (تذكر أنه فرض جدلي)، هل ينتهي الأمر بالنسبة لك؟ لو كان هذا ينهي القضية والصراع لما كانت هناك قضية قبل احتلال القدس الشرقية بعد هزيمة ١٩٦٧م، ثم إصدار الكنيست للقانون الذي يعتبر "القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل" في يوليو/ تموز ١٩٨٠م.
رأيي اليوم هو نفس رأيي يوم كتب الدكتور "يوسف زيدان" وتحدث عما أسماه "المسألة المقدسية" وما وصفه بـ "الموت المجاني" للعرب واليهود حول مدينة موهومة القداسة. حيث قال بأن مسرى النبي كان إلى مسجد الجعرانة الذي يبعد كيلومترات عن مكة، وأشار في أحد مقالاته في المصري اليوم لاحتمالات أن يكون الحديث في صورة الإسراء عن نبي الله موسى وليس عن النبي محمد (ص)، وسرد تاريخ الأديان الإبراهيمية الثلاثة وعلاقته بالقدس، وأن مسمى بيت المقدس والقدس حديث وطارئ على الفكر الديني الإسلامي بعد القرون الأولى، وأنه تعريب لاسمها العبري "بيت همقداش". وقتها، تدحرج كثيرون لمجادلته حول التاريخ الديني للمدينة، فكان رأيي وما زال أن مناقشة الطرح الوطني والقومي أولى من مناقشة الطرح الديني والتاريخي. فدم سال فوق تراب وطن سليب لا يجوز وصفه بالدم المجاني. فهو أغلى دم جرى في عروق أغلى رجال. وأن المسألة فلسطينية وليست مقدسية. فكامل التراب الفلسطيني من الجليل شمالا إلى النقب جنوبا مقدس، ولا يقل قداسة عن القدس الشريف. قداسة كل تراب وطني محتل قداسة يفرضها واقع الصراع على الأرض بعيدا عن جدليات القداسة في الأديان.
وحتى لا يختلط عليك الأمر، فأنا لم ولن أقلل من أمر القدس الشريف، لكني أجلّ فلسطين. وأنا مع استنفار الرأي العام العربي ضد محاولات فرض العدو الصهيوني مزيدا من سيطرته على القدس الشريف والمسجد الأقصى، ومع كل الندوات التي عقدت تحت عنوان "القدس" و"الأقصى". لكن فلسطين ليست القدس وحسب، والقدس ليست القدس الشرقية وحسب، والقدس الشرقية ليست المسجد الأقصى وحسب. تشويش الوعي خطير كتشويهه، واجتزاء الوعي أخطر منهما. وقد بلغ بنا تشوه الوعي يوما في مطلع التسعينيات أن انتشرت صورة لمسجد قبة الصخرة كتب فوقها "الأقصى يناديكم". والمحاولات منذ سبعينيات القرن العشرين مستمرة لاجتزاء القضية الفلسطينية وتقسيمها إلى معادلات منفصلة كعادة الصهيونية في التعامل مع أهدافها.
فك الكاميرات والبوابات الإلكترونية، والسماح لمن هم دون الخمسين أو فوقها بالصلاة في المسجد الأقصى، وتوسط "طويل العمر" لدى السيد الأمريكي ليسمح الصهيوني بإقامة صلاة الجماعة فيه، واهتمام الجميع بكل هذا، أمور مفهومة في سياقها. ولكن علينا ألا نسمح للعدو وأذنابه بتحويل بؤرة اهتمامنا الأساسية من فلسطين إلى المسجد الأقصى.
القدس نقطة جوهرية في القضية الفلسطينية، بوصفها العاصمة التاريخية لفلسطين المحتلة، وهو تاريخ معاصر ليس بوسع كائن من كان أن يثير حوله الشكوك والريب، بهذه الصفة الآنية والواقعية، صارت "القدس عروس عروبتنا"، وهكذا يجب أن تبقى رمزا للقضية لكنها ليست موجزا لها..
(*) كاتب عربي مصري