ارشيف من :نقاط على الحروف
الأمة والخلاص من ’كوابيس اليقظة’
تبدو الامة في حالة من "كوابيس اليقظة" - ان جاز التعبير - محملة بكل اسباب وتفسيرات الكوابيس، من سوء واضطراب في الهضم لما وضع على موائدها من وجبات معقدة مليئة بخلط في المفاهيم وتشويش وبلبلة وبسبب ارهاق واجهاد بفعل الاستهداف الخارجي والاستبداد الداخلي والصراعات البينية وكذلك من عقاقير مخدرة للالهاء عن المشاركة في خضم الاحداث وتحييد الجماهير او حشدها في اتجاهات مضادة لمصالحها، ناهيك عن كل مسببات الكوابيس وما يناظرها في الواقع الاجتماعي.
الا ان كوابيس الامة اشد ايلاما من كوابيس النوم التي قد تزول بالفزع او الشعور بالاختناق او مساعدة خارجية بايقاظ النائم المنتفض من كابوسه، فهي لا تجد مخرجا مما تستمر معه حالة المعاناة من الكابوس كنوع متقدم من التعذيب.
والكوابيس علميا تأتي غالبا في فترة متقدمة من النوم وتكون قبيل اليقظة، ما يفتح بابا للأمل لدى الأمة ينبغي الا يوصد بالتشاؤم.
ان المرض العضال للأمة هو مرورها بفترات طويلة من الاستعمار والاختراق انشأ فجوة بينها وبين المستعمر، وهذه الفجوة شملت مجالات عدة ابرزها ما يتعلق بالجوانب المادية المتعلقة بالتكنولوجيا وهو ما خلق فجوة نفسية لدى جماهير تم الضغط عليها في حرب فكرية موازية بأن هناك فجوة في العلوم الانسانية ايضا، ما جعل هناك استغلالا للفجوة العلمية بصب قناعات ان هناك ايضا فجوة فكرية وفلسفية وان التخلف العلمي مقترن بالضرورة بتخلف فكري.
وفي حقيقة الأمر فان هذا ليس صحيحا، والواقع يقول ان النمط الفكري الغربي اثبت في اغلب ممارساته تخلفا بل وحمقا في استغلال التقدم العلمي لدرجة حرفته الى مسار القتل والتدمير ونشر الامراض لاسباب سياسية بدلا من البناء، بل واصبح التقدم الانساني المصاحب للتقدم العلمي مقترنا بالتجارة وبيع هذا التقدم وعرضه في الاسواق!
ان بعضا من مذكرات فلاسفة كبار عندما يسمع اسماءهم المواطن العربي ربما يريد الوقوف لهم احتراما وربما يزدري اي فلاسفة من مواطني امته اذا ما قارنه بهذا الفيلسوف الغربي، تكشف كم التغييب الذي وقع به العرب ومقدار الخديعة التي وقعوا في حبائلها!
وعلى سبيل المثال فإن شخصا مثل "الفيلسوف" البريطاني بيرتراند راسل والحاصل على نوبل في عام 1950 والمشتهر بانه داعية سلام، كتب في كتابه "تأثير العلم على المجتمع" الصادر عام 1953 الاعتراف الصريح التالي نصا: (لكنك قد تقول أن الأوقات العصيبة هي الاستثناء، ويمكن التعامل معها بالوسائل الاستثنائية. هذا قد يكون صحيحا إلى درجة ما في فترة شهر العسل للثورة الصناعية، لكنها لن تبقى صحيحة مالم يتم تقليل النمو السكاني بشكل هائل. في اللحظة الراهنة يتزايد عدد سكان العالم بمعدل 58 ألف نسمة في اليوم. إن الحرب لحد الآن أثبتت فشلها في وقف هذا النمو الذي استمر حتى في أثناء الحربين العالميتين.. الحرب كانت مخيبة للآمال في هذا الشأن لحد الآن. لكن ربما الحرب الجرثومية قد تثبت أنها أكثر كفاءة في هذا المجال. لو أن الطاعون انتشر في كل العالم مرة في كل جيل، فسيستطيع الناجون أن يتكاثروا بحرية أكثر بدون أن يجعلوا العالم مزدحما كثيرا.. قد تكون هذه الوضعية مثيرة لعدم الارتياح، لكن ماذا في ذلك، فلتكن؟ حقا إن الناس الذي يفكرون على مستوى عالي لا يبالون بالسعادة، خاصة سعادة الشعوب الأخرى..).
راسل والمشهور باعتراضاته على الاسلحة النووية ووقوفه لجانب الحق الفلسطيني ومعارضته للحرب في فيتنام يكتب مثل هذا الكلام لتسويغ نظريات مثل تحديد النسل وحماية البيئة يرى كثيرون إنها نظريات وراءها اهداف سياسية اقتصادية بالاساس لصون الموارد وجعلها حكرا للمستعمر!
ولازالة اللبس فان هناك تفسيرا للكاتب حسين العسكري نراه وجيها يقول فيه ان المثير للاهتمام أن مروجي الفكر الرجعي ليسوا من المحافظين اليمينيين، بل عادة من حزب العمال البريطاني وبالذات الجمعية الفابية واشتراكيون أوربيون و"ديمقراطيون" أمريكان. السبب في ذلك هو أنك لو أردت من عامة الناس أن ينتحروا اقتصاديا أو يجوعوا أبناءهم فلا بد من أن تتحدث إليهم من منطلق الدفاع عن العمال والضعفاء. ولا بد أن يكون للنظريات التدميرية هذه منطق "إصلاحي" اجتماعي.
وبالبحث فاننا نجد اشياء لافتة تعبر عن هذا العالم المليء بالخديعة، فسنجد مثلا ان جوليان هاكسلي عضو الجمعية البريطانية للنقاء العرقي العنصرية هو الأمين العام الأول لمنظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة اليونسكو، وان داج هامارشولد السويدي ابن يالمار هامارشولد رئيس معهد الدراسات العنصرية السويدي السابق أمينا عاما للأمم المتحدة في الخمسينات، وحاليا فان الفجوة بين ممارسات مؤسسات النظام العالمي وشعاراتها واسمائها غنية عن التعريف والحديث.
ما نريد قوله ان كوابيس الحاضر تفرض على الامة استفاقة تنفض عن جسدها ما علق به من اوهام وهواجس وان تستحضر لحظات امجادها بالاستقلال وان تستلهم من مفكريها وعباقرتها الذين وضعت كتاباتهم وافكارهم على الارفف واحيانا في مقالب للقمامة، وان تستلهم من نماذج المقاومة في حاضرها ما يدفع عنها اليأس ويزودها بالطاقة الايجابية عندما ترى نتائج المقاومة مكللة بانتصارات يصعب تصورها وتصديقها ممن احيطوا بقناعات زرعت داخلهم الضعة والقنوط واملت عليهم طريقا واحدا للنجاة هو الاستسلام.
لا زلنا مع الامل وان الكوابيس تأتي قبيل الاستفاقة وان الامة مليئة بنماذج فكرية وكوادر علمية ومقاومة تقيم الحجة طوال الوقت، وان هذا كله مؤشرات لميلاد جديد ينبغي ان يحدث بعد هذا المخاض العسير.
(*) كاتب عربي من مصر