ارشيف من :نقاط على الحروف
لعبة الأرقام في مصر
أحمد فؤاد (*)
خرج وزير مالية مصر، عمرو الجارحي، مهللًا مبشرًا بتراجع عجز الموازنة، في العام المالي 2016/2017، إلى أقل من 11%، وعلى خطى زملائه الوزراء، اعتبر أن العجز إنجاز ضخم يحسب له كأحد مسؤولي برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، المثير للجدل والشفقة في آن، رغم أن الوزير ذاته وفي نفس التصريح قال إن العجز خلال السنوات الثلاث الماضية تراوح بين 11 و13%.
معدلات التضخم التي أعلنها البنك المركزي المصري مؤخرًا، ارتفعت لأعلى مستوى تاريخي محققة 35.26%
الوزير كذلك لم يترك فرصة المباهاة بالوهم تنفلت من يديه، فعزا جانبًا من تفاؤله بالوضع الاقتصادي إلى إعلان البنك المركزي المصري، الصادر مؤخرًا، بزيادة احتياطي النقد الأجنبي إلى أكبر رقم له بعد يناير 2011، أي إلى 36 مليار دولار، متناسيًا أن الاشتباك اليومي للمواطن مع الاقتصاد جعل الغالبية تدرك أن الاحتياطي ارتفع من القروض الأجنبية التي أدمنها النظام المصري، ووصلت حاليًا إلى 3.6 تريليون جنيه.
محافظ البنك المركزي، طارق عامر، ابن شقيق بطل مشهد النكسة المروع عبد الحكيم عامر، مستمر هو الأخر في تغييب القواعد المنطقية الأساسية عن كلماته وقراراته وبياناته. الرجل لا يزال أكثر محافظي المركزي –في العالم- ظهورًا وحديثًا وإثارة للجدل، حيث لا يمتلك أي مهارات حضور أو "ثباتًا سلوكيًا" معهودًا في منصبه الرفيع، وهي سمة تغلب على مسؤولي مصر أما فرحًا بلعبة التحكم في 93 مليون ضحية تذبح يوميًا بصمت، أو اقتداء برئيسهم المفتون بحب الظهور وفلاشات التصوير.
الحالة الواضحة من التأخر الإدراكي عند مسؤولي مصر الحكوميين، تجعل من المناسب مقاربة تصريحات كل من له علاقة بتطبيق الإصلاح الاقتصادي –المزعوم- بشيء من رحابة الصدر، فحضرات السادة الوزراء لا يبدون على علم بالقواعد الأساسية للمنطق، فالعجز لن يتحول لإنجاز ولو كان وسط عميان، ونظرة واحدة من شباك سيارة أو مكتب الوزير المنعزل عن مواطنيه –كغيره من المسؤولين- كفيل بتغيير وجهة نظره تجاه إصلاحهم المزعوم.
معدلات التضخم التي أعلنها البنك المركزي المصري مؤخرًا، ارتفعت لأعلى مستوى تاريخي محققة 35.26% في يوليو الماضي، مقابل 31.95% في يونيو السابق عليه، أي أن البنك بذاته يقول إن مواجهة التضخم ما زادته إلا اشتعالا، وللشهر العاشر على التوالي التضخم مستمر في تحقيق أرقام قياسية، لم تشهدها مصر عبر تاريخها على الإطلاق.
المثير أن تجربة التحرير الجزئي لسعر صرف الجنيه أمام الدولار تمت مرتين في عهد المخلوع مبارك، الأولى في 1991، وتلاها ارتفاع التضخم لنحو 20% فقط، لفترة قصيرة ثم عاود الانخفاض، بفعل إدارة واعية لمخاطر ارتفاع الأسعار على الشارع المصري، ثم تلتها تجربة أخرى في 2003حركت سعر الدولار من 4 إلى 7 جنيهات، ثم عاد الانخفاض إلى نحو 5.5 جنيها، ولم يزد التضخم في الأشهر التسعة التالية إلا في حدود 20% أو أكثر قليلًا.
جانب أخر لا يقل خطورة عن التضخم المنفلت والاستدانة بلا تخطيط، وهو "الخيانة بالأرقام" التي ينتهجها البنك المركزي تحت قيادة "عامر"، حيث حرص على إعلان تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، عن الفترة من يوليو-مارس من السنة المالية 2016/2016، مرجعًا الفضل في ذلك إلى قرار تعويم الجنيه، وتسابق رؤوس الأموال الأجنبية الى مصر، وتحسن أداء الميزان التجاري، وهو ما يعد تدليسًا فاضحًا.
والتحسن الذي يهلل له المتمسكون بحبائل الأمل الكاذبة، يأتي من بند واحد متعلق بالديون الأجنبية، وهو إصدار أذون وسندات خزانة بالدولار بلغ مجموعها 8.2 مليار دولار خلال 3 أشهر فقط، وتعد من الديون عالية الخطورة، إذ يقبل عليها المستثمرون الأجانب بسبب ارتفاع العائد عليها لأرقام قياسية، تدفعها الحكومة صاغرة لقاء إشباع هوسها بالاستدانة من الخارج.
إدارة السياسة النقدية حاليًا تتم من جانب محافظ المركزي بلا وعي، وتستدعي سياسات عامر الصغير إلى الذهن فورًا فلسفة النكسة الأشهر "حرب بلا تخطيط ثم انسحاب بلا ضابط"، تغير بعدها وللأبد شكل الشرق الأوسط، وفي القلب منه مصر، ووجهت طعنة غائرة للشخصية المصرية، أفقدتها التوازن والإرادة.. ولا تزال توابعها مستمرة حتى اليوم.